شلي

سمير طحان
شلي
مسرواية دومينو
الفصل الأول حلب: 10 آذار 2010
المشهد الأول 15 نيسان 2013

المكان: غرفة في بيت من بيوتات شارع النيّال.
الزمان: ضحى يوم من أيام العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
الشخصيات: ثلاث نساء و رجل يتحدّثون.

ست كاف: الدنيا عقول والعقل الأعوج أكثر من العقول السويّة ولكن لكل شيء أساس: هذا أحبّ واحدة حبّاً حتّى العبادة ولكن أخته ظلّت تحكي عنها بالعاطل حتّى فكّكته إياها يعني لا أعرف لماذا لا تحبّ الأخت أن يتزوّج أخاها، كأنّ الأخت تحسّ أنّ أخاها ملكها، لها وحدها ولا يجب أنّ يكون لغيرها. انظروا كم من الأخوة أبناء كبر يعيشون مع أخواتهم العوانس!
سيّد سين: على كلٍّ هذا طبيعي فأصلاً أبناء حوّاء تزوّجوا بنات حوّاء يعني أجدادنا تزوّجوا أخواتهم. الأخ زوج سرّي.
ست كاف: المهم هذا بعدما فكّ حبيبته، تغيّر عقله، ما جنّ ولكن صار شبه مجنون وصار يخطب ويفك. بنات الناس ليست لعبة ولكن هذا استحلى لعبة الخطبة. آخر فصوله: صباح يوم عرسه، قرّر أن يفكّ خطيبته ويتزوّج أختها. الأختان تحبّان بعضهما البعض. قالت الخطيبة لأختها: يا أختي أنا أم أنت، المهم هناك عرس في البيت وبدلة العروس جاهزة وقياسك على قياسي والبطاقات موزّعة. كل ما سيتغيّر هو الإسم. عوضاً عن أن يقول الخوري: كلّل يارب فلانة على فلان. سيقول كلّل علاّنة على فلان وعلاّنة أخت فلانة وساعة الإكليل، صارت عيون المدعوّين في قرص رؤوسهم حين رؤوا أخت العروس في ثوب العروس وأين العريس؟ استقبل الناس واختفى وانطبلت حلب بهذه القصة المضحكة المبكية.
ست ميم: كلّ شيء له أساس. هذا لو ما حرمته أخته من حبيبته، لما جنّ هذا الجنون. زد على ذلك أنهم حين طلبوه وجدوه يختبئ في بيت أخته، عند أخته يعني الأخت يمكن أن تسيطر على أخيها وتلعب به كما تريد وليس لله بالله جاء كره الزوجات لبنات الحمي.
ست كاف: الزوجات يشعرن أنّهن الزوجات الثانيات والأخت هي الزوجة الأولى وقصة ذاك الذي أنجب ولداًً من أخته معروفة في البلد. خبّأها عند أصحاب له في ضيعة وحين ولدت، أعطى الولد إلى عمّته لتربّيه والآن هذا الولد مشروع صحفي.
ست قاف: شيء يحطّ العقل في الكفّ. يعني الواحدة منّا لا تقدر أن تأمن ولا لأخوتها ولا لأبيها؟ أخبروني عن إمرأة أخذت بناتها الثلاثة إلى طبيبة نسائيّة وبعد أن كشفت عليهنَّ قالت: الثلاثة حوامل فأين أزواجهنَّ؟ أجابت الأم: أبوهنَّ حبّلهنّ وهرب واختفى ولا أحد يعرف طريقه. أليس هذا شيء لا يصدّق؟
ست ميم: الجسم لحم واللحم لا يعرف أخ، أخت ومؤخراً فشل زواج إبن فاء ووصل إلى الطلاق لاكتشافه على حد ما يقول أنّ زوجته تحبّ أخاها.
ست كاف: الناس لا تحبّ فتح هذه السيرة: سيرة الحب بين الأخوة والأخوات لأنّ كل واحد منّا متّهم، البنت متّهمة بحب أخيها والصبي متّهم بحب أخته وفي حال عدم وجود أخ أو أخت كلنا متّهمون بحبّ الأب أو الأم ويقولون أن آدم نام مع بناته وحوا نامت مع أبنائها.
ست ميم: صحيح صحيح! وأمس يوم أمس بالذات سمعت عن امرأة مات زوجها وخلّف لها فتاة في الخامسة من عمرها، فصارت تعاشر إبنتها معاشرة الزوج للزوجة والبنت الآن مثل مجنونة، لا تقدر أن تنفصل عن أمها ساعة واحدة.كل شيء عادة، البنت اعتادت على أمها والجارة نصحت العم أن يدفع إبنه ليغتصب إبنة أخيه وهكذا تعرف لذّة الذكر فتترك أمها وسأحكي لكم ما سيجري بعد أن يجري.
ست كاف: المهم هناك أمهات حبلن من أولادهن وبنات حبلن من آبائهن أو من إخوتهن. اليوم صباحاً، حكوا لي عن بنت حبّلها جدّها فغارت جدّتها وراحت تريد أن تنام مع حفيدها. أين أنت ذاهبة؟
ست ميم: البشر مثل كبّوش خيطان مشربك ومعرقد ببعضه وصعب أن تلاقي رأس خيط يكون الأساس.
ست كاف: هناك رؤوس خيطان، هناك أسس. لكّل شيء أسس والإنسان مادام يعيش، يسمع ومن خلال ما يسمع عليه أن يكتشف الأسس. السمع في حياتنا أهمّ من النظر. ليس كلّ شيء متاحاً للنظر في حين أن كلّ شيء متاح للسمع. النظر يرينا الظواهر والسمع يعطينا البواطن. السمع أسهل من النظر. يمكن أن ننقل حادثة بالكلام ولكن صعب إن لم يكن مستحيلاً أن ننقل حادثة بالمناظر.
ست قاف: بالحكي أو بالإشارة، المهم توصيل المعنى وتفهيم القصّة. أمٌّ عادت إلى البيت فرأت ابنها يتغارم مع زوجة أخيه فدبّت الولاويل وراحت تسبّ وتلعن الاثنين فكمشها ابنها وأسكتها وقال لها: أنت أيضاً مضى على ترمّلك زمن طويل وما من شك في أنّك تشتاقين لأن يطرقك أحد فهيّا إلى الفراش. هنا رمت الأم ابنها أرضاً وهربت غير مصدّقة ما يجري. بعد أيّام رأت المرأة كنّتها فبادرتها هذه بطنجرة الطبيخ وألبستها إيّاها وهي ساخنة وصارت الحماية في المستشفى والكنّة في المخفر. فهل يعقل هذا؟ أم هل يمكن فهم هذا؟
ست ميم: أفهم كيف امرأة لها خمسة أولاد تترك بيتها وتهرب مع رجل آخر. أقدر أن أحصي خلال عمري حادثة هريبة كلّ أسبوع. على المحاكم الروحية أن تسمح بالطلاق. الطلاق يقضي على ظاهرة هرب الزوجات. زوجي أمه في زمانها هربت مع سمّان الحارة وشرّدت عيلة بأسرها ومايزال زوجي وإخوته وأخواته يعانون آثار هريبة أمّهم. أعيش معه في جحيم ولولا عقلي كبير لصرت في العصفورية من زمان.
ست كاف: لا تذهبوا لبعيد، هنا في الحارة،كم بيت فيه زوج أو زوجة ضحايا هريبة أمهم مع غير أبيهم. الزوجات الهاربات ضحايا وأزواجهن ضحايا وأولادهن ضحايا. القوانين يجب أن تساعد على حلّ مشاكل الناس. امرأة لسبب من الأسباب ما عادت تقدر أن تعيش مع زوجها. مصيبة أم مخطئة؟ ليس هذا مهماً. المهم أن يكون هناك حلّ يضمن لها حرّيتها دون بهدلة ثمّ ابحثوا في الأسباب.
ست ميم: وهل على كل واحد أن يكون عالماً ليبحث؟ ثم لماذا يجب أن يكون لكل شيء سبب منطقي ومقنع؟ ألا يوجد شيء هكذا؟ هكذا لا أريد أن أعيش مع زوجي، لماذا يجب أن أعطي تبريرات؟
ست كاف:كل واحد وله عقل. خذوا كل واحد على قدّ عقله. الأزواج وجدوا حلاً بأن اتّخذوا صاحبات، عشيقات وما منه.كل هذه المصاحبات علنية وأغلب الأحيان بعلم الزوجة والزوجة لا حول لها ولا قوة، عليها أن تبلع الموس على الحدّين وتسكت وإن طلع صوتها يقولون: ناقصك شيء؟ بيت وكسوة ومونة وعندك كل شيء. كلا يا أسيادي! ناقصها زوجها. يوم زواجي، قالت لي أمي: لا تفلّتي بمحضر زوجك. سألتها: وإن فلّت هو؟ أجابت: شمّي واسكتي. لماذا علينا، نحن النساء، أن نشم ونسكت وعليهم، هم الرجال، أن يفلتوا على كيفهم؟
ست ميم: الفلتنة حقارة على الطرفين. ليلة البارحة إبنة باء، متزوّجة ولها ثلاثة أولاد، طلبت من زوجها أن تعمل لتصرف على نفسها وأولادها لأن زوجها صرم مشوي لا يبزّ ولا ينزّ واشتغلت في محل أيروبيك فعلقت بغني أراها ما لا نراه في الأحلام فهربت معه. أكانت هذه هربت لو كان زوجها يكفيها؟ قولوا لي: لماذا يجب أن تحتمل نشحه وتبقى معه؟
ست كاف: يجب أن تكون هناك قوانين تعاقب على البخل. البخيل مادياً بخيل عاطفياً.
ست ميم: غيرها إبنة صاد، زوجها كل ليلة مع واحدة شكل وهي صابرة وهو لا يذوق على دمّه ويتفضّى لإمرأته وبيته. معها في العمل زميل يشيلها على الراحات. يقول لها: مُري وأنا أنفّذ. عازب برأسه لا أمامه ولا وراءه ووحيد أهله. هرّبها والآن على الذهب يمشّيها والشور شورها والقول قولها. لماذا قامت الدنيا وقعدت عليها؟ لأنها بحثت عن صالحها؟ ولماذا يسكتون عن زوجها النسونجي؟
ست كاف: البارحة نفس البارحة خابروا إبنة سين التي ياما حسدوها على زواجها وقالوا لها: الحقي زوجك في أيروبيك فندق كذا وما كذّبت خبر. ذهبت وماذا رأت؟ زوجها مع فنّانة شهيرة في وضع شهير. اسودّت الدنيا في عينيها ومع وجهها إلى أبيها. ماذا قال لها؟ الرجل يجهل فترة ثمّ يعود إلى بيته. الرجل غير طينة المرأة؟ المرأة أيضاً يمكن أن تجهل. المختصر المفيد: الطلاق في حالات ضروري.
ست ميم يقولون: الفساد ماشي ويمكن أن يقع طلاق بالرشاوي دون ضرورة.
ست كاف: يمكن، بالفساد يمكن كل شيء. الأفضل القضاء على الفساد وليس سنّ القوانين حسب الفساد.
ست ميم: الفساد في الأرض من يوم خلقت الأرض والفساد في البشر من يوم خلق البشر.
ست كاف: الفساد طبيعي أمّا غير الطبيعي فهو أن يكون هناك أكثر من مقياس: مقياس للرجل ومقياس آخر للمرأة، مقياس للغني ومقياس آخر للفقير وهلم جرّا. تعدّد المقاييس مصيبتنا.
ست ميم: الميزان الواحد منام. العدالة حلم. العلم هو الرضى بالواقع؟ لا! العلم هو تغيير الواقع. المرأة كل عمرها تسعى إلى تغيير واقعها، من فاضل إلى أفضل، أمّا الرجل فبليد، يلبّد ويخاف أن يتجدّد أو يجدّد في كل شيء إلاّ في الغراميات فخذّ وهات. لو صحّت للرجل كل ساعة إمرأة جديدة لما قال لا، حتى ولو على حساب إمرأته وأولاده وبيته.
ست كاف: الرجال لا يشبعون من النساء. الرجال عبيد النساء أمّا المرأة فسيّدة نفسها، أولادها وبيتها عندها بالدنيا كلّها.
ست ميم: التعميم خاطئ.
ست كاف: صحيح ولكن مقابل كل عشرة نساء صالحات هناك رجل صالح.
ست ميم: إيه النعجة حين تنـزنق تدوس قلب فَلْوَها.
ست كاف: تدوس إبنها ولكن هذه ليست قاعدة بل استثناء!
ست ميم: هذا ليس استثناء هذا شواذ. آه! ماذا أخفي وماذا أعلن؟ مقابل كل مئة رجل صالح امرأة صالحة.
ست كاف: أقول لكم؟ الحقيقة أنّ الحقيقة ضاعت وما عدنا نعرف الغلط من الصحّ ولا الحقّ من الباطل، نعايش أحداثاً تدلّ أنّ النساء أفضل من الرجال ثمّ تطلع في وجهنا أحداث ترينا العكس بل تؤكّد أن الرجال أفضل من النساء وأكبر دليل جارنا، فتح لزوجته دكاناً لبيع الأدوات المنزلية فعلقت بصاحب الدكّان المجاور وهربت معه وبعد فترة ما عاد صاحبها يحبها فكبّها فأعادها زوجها إليه وإلى أولادها وبيتها وكأنّ شيئاً ما صار.
ست قاف: الحكي بشماريّة يعني بالدورية، اتركا دوراً لغيركما. أنتما دائماً هكذا تكمشان الحديث ولا تفلتانه ولا تسكتان. هناك أمور معقولة وهناك أمور غير مقبولة. فهمنا أن تترك امرأة زوجها وتهرب مع غيره أمّا أن تعاود ترك الذي هربت معه وتهرب مع ثالث فهذا زيادة وبرادة وخارج عن العادة. صح! كما تفضّلتي يا ست كاف. وتصديقاً لكلامك: امرأة لها بنت عمرها سنتان عشقت بائع نفوتيه مصري وصارت تتردد عليه مع أختها الأصغر منها. يعني صارت تزور دكّانه بحجّة أنها تريد أن تطبّق له أختها الصغرى. وأقنعت زوجها أنها تريد أن تحصل على جواز سفر لترافق أمها إلى القدس وحين حصلت على جواز السفر، هربت مع المصري إلى القاهرة وهناك أذاقها المرارات صحوناً وكاسات. أسكنها في عشّة فراخ وبالكاد كان وأهله يسدّون جوعها وعطشها بشقفة خبز وقدح ماء. هذه طفشت بعد أن قمّلت هي وابنتها إلى أحد الأديرة وصارت تعيش: خدمتك بلقمتك وراحت تكاتب أهلها معلنة توبتها ورغبتها بالعودة إلى سوريا. في هذه الأثناء كان زوجها قد اشترى مسدساً وأعدّ العدّة لقتلها وسافر إلى القاهرة. ما إن رآها زوجها في الوضع المزري الذي هي فيه وابنتها حتى انفجر في البكاء وضمّها وشعر كأنّ صوتاً من داخله يدعوه إلى أن يسامحها فغفر لها وأعادها إلى بيتها معزّزة مكرّمة ويا دار ما دخلك شرّ. القصة لم تنتهِ هنا. الزوج الغفور تحوّلت حياته إلى جحيم، إذ راح كلّ الناس يسبّونه ويشتمونه ويلعنونه وينعتونه بأشنع النعوت لأنّه سامح زوجته: يا أبو قرون .. يا قوّاد .. يا خيخة يا مَن لستَ رجلاً وهذه تكبكب له وذاك يبصق في وجهه وهو صابر صابر يتحمّل الاضطهاد غفراناً عن خطاياه وخطاياهم. انتظروا! القصة ما انتهت. هذه بعد كل ما عملته بحق زوجها هجرته ثانيةً وأصرّت ألاّ تعود إلاّ بمراسيم عرس جديد كي يعيد لها جاهها وجهجهونها فرضي وتعالوا وانظروها أماً لأربع شباب وفي يدها باقة زهر عرائسية تتبختر قاطعة المسافة بين بيت أهلها وبيت زوجها. العروس المتجددة صارت بالسر تذهب على حلّ شعرها لتنهب اللذات مع غيره وآخر فصولها ادّعاؤها بأنها صحفيّة وبأنها ذهبت لتغطية حفل يقيمه اللوّاطون وراحت تسهب وتطنب في وصف ما رأته في ذلك الحفل وتبالغ في اظهار أسفها بأنهم لم يسمحوا لها بالتصوير وآخر أخير فصولها أنها ترشّحت للانتخابات وتنطّح زوجها ليقود حملتها الانتخابية. قالوا لي أنها معقّدة من أمها التي ما كانت تحبها والتي كانت دائماً تستصغرها وتقلل من شأنها ولذلك كبرت وهي تحاول أن تثبت لأمها أنها ذات شأن وأنها قادرة أن تفعل أشياء وليس فقط شيء واحد وقالوا لي أنها منذ طفولتها كان معها وشّة في عقلها وكانت مولعة بالتفرّج على الذكور وهم يقضون حاجاتهم الحميمة وأنها كانت مأخوذة بالجان والأرواح وتدّعي أنّ الأرواح تحتكّ بكتفيها وهي تمشي وأنها مختصّة بالكشف عن الكنوز المخبأة وذات مرة وقعت على كنز تحرسه جنية مسيحية طلبت زيت ميرون لتطلق سراح الكنز وفي مرة أخرى كانت حارسة الكنز حيّة ضخمة يبلغ قطر رقبتها متر أو أكثر طلبت مشيمة جنين ماتزال ساخنة بدمها ومرة أخرى كان حارس الكنز جنياً طلب فتاة من قرية قريبة من موقع الكنز وحين رفض أهلها تسليمها للجني الحارس انقلب الكنز إلى رماد وقيل أنها أجبرت ابنتها على أن تشيع بأن ملك الجان الأحمر قد تزوّج أمها وبأنها دخلت مرّة ورأت أمها نائمة وبينها وبين السرير ذراع هواء وقالوا بأنها تقود شبكة دعارة وأنها طبّقت لأحد الشبّان فتاة تعجبه وفي اليوم التالي جاء وعاتبها لأن الفتاة طلعت ذكراً وركبته بدل أن يركبها، وقالوا أنها ساحرة تقدر أن تميت من تشاء وتحيي من تشاء وقد عملت عملاً سحرياً لزوجها فأكلت عقله حتى صار مثل التوتو يخضع ويخنع ويسايرها في كلّ شيء.
ست ميم: يحكون لنا سِيَر القدّيسين والأولياء، هذا الزوج أقدس من كلّ القدّيسين وأولى من كل الأولياء. سمعتم ولا شك بقصة الذي كمش زوجته مع عشيقها بالجرم المشهود وحبسهما وبعد التا والتي أعادها وعادا مثل سمنة وعسل. ربما نتساءل: لماذا كل هذا التعصّب والتشدد في البداية ولماذا كل هذا التساهل والتنازل في النهاية؟ لماذا كل هذه الشوشرة ثم لماذا هذه السمسرة؟
ست كاف: الإنسان عبد وقته ولكل حال أحكام. أخطأ وأصلح خطأه أو قولوا: ما أخطأ ورحم زوجته وإبنته. لِمَ لا! الرحمة فوق الحكمة.
ست ميم: هناك رجال يسوون بثقلهم ذهباً وهناك نساء يسوين بثقلهن جواهر. الصلاح ليس حكراً على جنس دون جنس ولكن بعضنا يصادف في حياته نساء أفضل من الرجال فيقول: النساء أفضل والبعض يصادف رجالاً أفضل من النساء وهؤلاء يقولون: الرجال أفضل. خذوا مثلاً! كم وكم من رجال ما فيهم عيب لمّوا عاطلات من الشوارع وعاهرات من الكباريهات وتزوجوهن وجعلوهن نساء محترمات وأمّهات مخلصات! لكن كم أم رضيت أن تعطي إبنتها لإبن من أبناء هؤلاء المستورات؟ ولا واحدة.كم أمّ رضيت أن يأخذ إبنها إحدى بنات هؤلاء التائبات؟ ولا واحدة.
ست كاف: العطل في الناس أساس وإلاّ لما قبلنا لغيرنا ما لا نقبله لأنفسنا. أتذكرون الذي كان يخطب ويفك؟ وأخيراً تزوّج. لاقت له أخته فتاة على عقلها وزوّجته مثل الجوجو. يقولون إن زوجته سايرت أخته حتى تنزل على خانته وإنها قوية قد تمسكنت حتى تمكّنت والآن ستُري أخته، إبنة حميها العجب العجاب والثلج في آب.
ست ميم: حكمة! التذلّل حتى التسلّل حكمة. ألا ليت كل بنت تتعلم أن تتلولب مثل الماء بين الصخور ومثل الحية بين الأشواك لتتزوج!
ست كاف: في مجتمع مثل مجتمعنا، ما للبنت مخرج غير الزواج ومجنونة من لا تستعمل كل حيلة وكل وسيلة لتحصل على رجل. الرجل يبقى طفلاً مهما كبر.
ست ميم: الرجل يظل موجوداً بأمه لا بذاته والشاطرة من تجلبه إلى الوجود يعني تخرجه من دائرة أمه وتدخله في دائرتها.
ست كاف: كل الرجال توتويات وجوجويات. أنا في حياتي ما عدّى في حياتي رجل مستقل.
ست ميم: أساس الرجولية التبعية وهذه التبعية مفتاح البنت إلى تملّك الرجل وربطه وسياسته كما تساس الخيل.
ست كاف: النساء أعظم سياسيات في العالم. المرأة تسوس الرجل والرجل يسوس العالم وبالنتيجة المرأة تسوس العالم.
ست ميم: العالم مثل عيلة، عيلة كبيرة. العلاقات الدولية مثل العلاقات العائلية. القوي حاكم والضعيف محكوم.
ست كاف: أحياناً الكلمة للرجل لأنه أقوى وأحياناً الكلمة للمرأة لأنها أقوى أو قولوا لأنها أضعف، تخضع لتتسيّد.
ست ميم: أغلب الأحيان الطاسة ضايعة، لا تميّز الحاكم من المحكوم وترى العيلة مثل غنم بلا راعٍ أو مثل غنم له أكثر من راعٍ ويظلّ حكم اللئيم على الكريم أصعب المصاعب.

الفصل الأول
المشهد الثاني

تدخل امرأة.
ست كاف: ها قد جاءت الستّ غين، تفضّلي، فضّي كشكولك!
ست غين: الناس ما لها حديث سوى قصّة الشاب الذي أحبّ جارته القاصر وطلع ودخل معها سنة أو أكثر ثم هرّبها إلى بيت أهله، فرفض أبوه تزويجهما لأنها غير راشدة وأخذها من يدها وأعادها إلى بيت أهلها صاغة سليمة ولكن أهل البنت رفعوا دعوى ضدّ الشاب وسجنوه، فانصدم أبوه وانجلط ومات وبعد عام من وفاته ورغم أن الفتاة ماتزال عذراء من فمّ إبرتها، صدر حكم بسجن الشاب ست سنين، فانصدم وانجلط ومات والبارحة كانت جنازته. حجارة الشوارع بكت عليه. كان شاباً مثالياً وأمام كل هذا، قرّر أخوته أن يغتصبوها وأختها فأخذ الأب إبنتيه واختفوا.
ست ميم: موت الشباب يحرق القلب وضحايا العشق والغرام أكثر من ضحايا السرطان ولكن لا توجد إحصائيات. كم من شاب جنّ أو مرض نفسياً بسبب الحب! وكم من فتاة انتحرت أو انقتلت بسبب العشق!
ست قاف: اسمعوا اسمعوا هذه القصة قبل أن أنساها! رجل له ولدان: شاب متزوّج وفتاة في ريعان الصبا، ترمّل، وعاود الزواج من امرأة آفة بحق وحقيق. أوّل ما عملته هذه اللعينة كان أن طلّقت ابن زوجها من امرأته واستولت على بيته الذي يتّصل ببيت أبيه بباب مفتوح. ثاني ما عملته أنها راحت تمرمر حياة ابنة زوجها وتقطّع فيها حتى لا تتزوّج وبذا تبقى خادمة لها. ذات يوم حاولت فتح باب بيت زوجها فما انفتح فراحت تخبّط على الباب ولكن ما من مجيب فدخلت من البيت الآخر وتسللت منه إلى البيت الثاني عبر الباب الذي بينهما فماذا رأت؟ رأت رجلاً بالفانيلاّ والكلسون يقفز من النافذة إلى الشارع ولحقته الابنة بنفس الوضعيّة وكان المطر يزخّ زخّاً ويرخّ رخّاً فاستنجدت بالزوج أبي الفتاة فلحق بهما وقتل ابنته في حين نجح العاشق في الفرار وفي الافلات من موت محتّم. وقد برّأت المحكمة ساحة الوالد القاتل لأنه لحظة اطلاقه الرصاص كان هناك مشادّة كلاميّة بين زعران انتهت إلى اطلاق رصاص متبادل زعم الدفاع أن رصاصة طائشة منه قتلت الفتاة وأُدين الأب فقط بالشروع في القتل. إيه! أرى أنه كان من الأولى أن تصيب تلك الرصاصة امرأة الأب التي هي رأس الفتنة ولكنه عالم ظالم …
ست كاف: هذا العالم غريب وعجيب والناس أغرب وأعجب. كيف الحبّ أصل سعادة الإنسان يكون سبب تعاسة البشر؟ لا يكاد يمرّ أسبوع دون حادثة غرامية محزنة.
ست غين: كان الناس يتهافتون على الجرائد والمجلاّت ليقرؤوا حوادث المجتمع، الآن صار الانترنت يدخل كلّ بيت وينقل أخبار حوادث نظنّ أنها مختلَقة لغرابتها ولكن نرجع ونقول: الواقع أغرب من الخيال. أما انفصل إبن شين عن زوجته فتَهَجْوَل إبناهما بين بيت الأب وبيت الجدّة ويوم صدور حكم التفريق، انتحر الإبن الكبير شنقاً حتى الموت. بعضهم قال إن الولدين كانا يعيدان أحد المشاهد التلفزيونية ويقلّدان الممثلين.
ست ميم: مهما كان الأمر، المهم الولد مات في الخامسة عشر من عمره قبل أن يهنأ بالحفل الذي كان سيقام لمكافأته على تفوّقه في الإعدادية …
ست قاف: يبقى للخبر المنقول وجهاً لوجه نكهة شيّقة أكثر من الأخبار المنقولة عبر وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. في الخبر الشفوي حميمية وحرارة إنسانية مفقودة في أخبار الأجهزة. شاب صاحب ورشة خياطة أحبّ إحدى العاملات عنده وتزوّجها وراحت هذه تتبحتر بأموال زوجها وتبذّر دون حساب حتى وصل الزوج إلى حد الإفلاس. زيدوا على ذلك أنَّ الرجل بدأ يشم رائحة غير نظيفة تفوح من سلوك زوجته الشابة التي يبدو عليها الاستهتار أكثر من الرزانة وفي يوم تلاسنا فسحب مسدّسه وحاول أن يقتلها فهربت وحين رجعت رأته قد انتحر. ذهب يا حسرتي عليه وبقيت الفاجرة حيّة ترزق وتتصرف بكل شيء وتصرف ما ورثته عن زوجها المنحوس بها.
ست غين: وغيره قصة ذلك الفتى الذي أحبّ فتاة وراح يهدّد أباه المنفصل عن أمّه، أباه صاحب السيرة العاطلة، راح يهدّده ليل نهار، إما يعطيه مالاً ويزوِّجه البنت وإمّا ينتحر والأب لا يبالي ويأخذ الأمر على محمل التمثيل، ذلك أن الولد مثّل أكثر من مرة عملية الشنق وسارع أهله إلى إنقاذه وفي مرّة لم تسلم الجرّة. انقلب التمثيل واقعاً وراح الولد ضحية نفسه ومات وهو يصيح: ما كنت أقصد… ما كنت أقصد… وغيره: الفتاة التي شربت سم الفئران حين منعها أهلها من الخروج بعدما ضبطوها تغازل إبن الجيران من الشبّاك، فماتت وتركت رسالة قالت فيها: أهلي قتلوني…
ست ميم: وليلة البربارة، أمَا قتل شاب رفيقه طعناً بالسكّين لظنّه بأنه يلحق رفيقته ليغازلها؟
ست كاف: وتلك الصبية التي قدّمت امتحانات الإعدادية وظلّ أهلها يقولون لها: ستسقطين… سترسبين… ستشرشحينا… ستسوّدين وجهنا، طبعاً الحلوة بالكومبلزون تذاكر أمام التلفزيون وعينيها من هون لهون، فانتحرت وظهرت النتائج فإذا هي ناجحة.
ست قاف: البارحة سمعنا صوت رصاصة في البناية فاستدعينا الشرطة واتّضح أن جارنا الذي ترمّل من سنة تقريباً والذي لم يخلّف أولاداً قد انتحر يأساً من حياته الفارغة وكان يبدو عليه دائماً الهمّ والغمّ وكأنه يحمل أثقال الدنيا على ظهره. الوحدة وحشة وتجرّ إلى عواقب وخيمة لذلك علينا أن نسعى دائماً إلى عدم ترك شخص يحيا بمفرده وإلى تزويجه ولو زيجة سترة ففي الزيجة فوائد عميمة. وقيل أن جارنا المذكور كانت له عشيقة وقد رفضت أن تتزوجه بعد ترمّله وليس هذا فقط بل تركته وعلقت بغيره وهذا ما جرّه إلى الانتحار. الناس يحكون ونحن ننقل عنهم. ولا ندري أصحيح ما يقولون أم لا؟ قريباً منا بعدنا بحارتين، رجل في أواسط العمر يبدو دائماً مذهولاً وشارداً حاول أن يرمي بنفسه من شرفة بيته في الطابق الأول لكن جاره كان في زيارته فأمسكه ومنعه في اللحظة الأخيرة وبعد أيام عاود المحاولة وانتحر ومات. أهذا أيضاً في حياته امرأة؟ لا أعرف. يقولون: فتّش عن المرأة. هذا انتصار لنا نحن النساء أن يعتبرونا سبباً لكل شيء ولكن قريباً من بيت أهلي شاب انتحر شنقاً وهذا من المؤكّد أنه كان يعاني من مرض نفساني أو عقلاني فما من أحد عرفه أو مجرّد رآه إلاّ وقال أن فيه شيء غير طبيعي. شيء غير طبيعي أيضاً سببه الجنس اللطيف؟ أرجو ذلك. صيت غنى ولا صيت فقر.
ست غين: وصخرة الربوة في الشام وصخرة الروشة في بيروت شاهدتان دامغتان على ضحايا الهيام ولكن الناس لا يتعلّمون.
ست كاف: الناس لا يريدون أن يتعلّموا … البوارتة والشوام والحلبيّة، يعيشون في الأوهام ويصرّون على العيش في الوهم. نحن مجتمع مريض وأمرض المرضى من لا يريد أن يتعالج.
ست ميم: نحن نظنّ أننا أصحّاء ولكنّ نفوسنا منخورة ومانزال نرفض العلاج النفسي.
ست غين: نرفض الاعتراف بالنفس أصلاً ولا نميّز بين العقلاني والنفساني فهذه اختراعات جديدة، أوجدها الغرب ليفرِّغ جيوبنا ويكسر قلوبنا.
ست كاف: أهل الفهم قدّ عدموا لأننا بتنا نرفض أهل العلم. حلب ما عادت حلب. المدنيون هاجروا والبدائيون استقرّوا وهاتوا عمر ليتمدّنوا.
ست قاف: لا يهمّ طبيعة السكّان، مدنيّة كانت أم بدويّة. الإنسان هو الإنسان في كلّ البلدان. المهم ما يجري مع الإنسان وسيّان في هذا المكان أو ذاك المكان. أكبر المآسي تكرار المأساة في العيلة الواحدة. امرأة هربت مع عشيقها وتركت بنتاً. عاشت البنت في كنف أبيها، درست وعملت وتزوجت وهربت مع عشيقها معيدة سيرة أمها وجمعتُ سلسلة من هذا النوع أعادت فيها الحفيدة سيرة أمها و جدّتها ونفس الشي في الانتحار. سمعتم ولاشكّ قصّة المحامي الذي انتحر بطلق ناري في رأسه وبعد عشرين عاماً أعاد ابنه نفس القصّة وانتحر بطلق ناري في رأسه وهناك قصّة الحمصاني الذي انتحر شنقاً وبعد أسابيع من انتحاره انتحر ابنه بنفس الطريقة شنقاً والناس كلّها تعرف قصّة الصائغ الذي انتحر بقطع شرايينه وبعد سنوات كرر ابنه نفس المأساة. أتساءل: هل الآفات البشرية، فطرية وراثية أم مكتسبة تربوية؟
ست كاف: الحمصاني الذي تذكرينه، من غير المؤكّد أنه انتحر لأنَّ الشرطة وجدت قفل درّابة دكّانه مغلقاً. أكيد أحد قتله شنقاً وأغلق الدرّابة وقفلها.
ست قاف: كل حادثة لها ألف رواية ورواية والعاقل لا يثبت ولا ينفي إلاّ ببراهين دامغة وفي حال غياب البرهان فليس أمام العاقل غير القبول بكلّ الاحتمالات.
ست ميم: على ذكر موت الشباب المفاجئ، طبيعياً بالغفلةً أو عمداً بالانتحاراً هناك قصة ابن لام. هذا درس في روسيا وأحبّ مسكوبية، صارت تتردد على زيارته في سوريا بعد عودته. كانت تأتي كل سنة شهراً، يصرف فيه المسكين كل ما جمعه خلال العام وفرحت أمّه حين انقطعت عن زيارته ثلاث سنين متواصلة فقامت وخطبت له إبنة خالته وتمّت إعدادات الزواج وقبل ثلاثة أيام من يوم العرس، طبّ غمّ، حضرت المسكوبية وضاع المسكين بين هذه وتلك ومن كثرة ما حصر نام وما صحا. مات ودبّت أمه وخطيبته ومن حولهما الولاويل واحتاروا ماذا يفعلون بالمسكوبية؟ فلا هي تفهم عليهم ولا هم يفهمون عليها. في النهاية اهتدوا إلى هاتف صديق للمرحوم، درس معه في موسكو فخابروه فجاء وأخذ المسكوبية وهمّ بأن يصطحبها إلى اللاذقية لتأخذ الباخرة إلى أوديسا فقالت له: ما تزال في إجازتي ثلاثة أسابيع ولا أريد أن أسافر الآن، فجاء بها إلى بيته وكان متزوجاً فعلقت البغلة بينه وبين زوجته بسبب المسكوبية وبعد أسبوعين من القيل والقال والتخبيط والتشبيط، نامت امرأته وما قامت. ماتت المسكينة فقالت المسكوبية للزوج: ولا يهمّك أنا أتزوجك وأرعى الأولاد. الرجل ما رأى غضاضة في عرضها ذاك ولكنّ الأولاد أبوا ورفضوا أن تصير قاتلة أمّهم زوجة أبيهم وبدأت المشاحنات والمشاجرات وفي صباح ما فيه ضوء شمس، جاء الرجل ليصحّي المسكوبية فإذا هي جثّة هامدة وهكذا ثلّثت يعني انتهى مسلسل الموت بموت ثلاثة.
ست غين: هذا كوم وما جرى مع ضابط آخر درس في موسكو كوم. أحبّ أوكرانية حبّاً أكثر من أسطوري. رغم أنّ إقامته كانت لمدّة ستة أشهر فقط، فقد ظلّ يقول إنّه عاش كل يوم أبدية وعاد مضطراً وكانت حبيبته حاملاً. منذ أن وطئت قدماه أرض الوطن، نذر ألاّ يستحمّ إلاّ مع الأوكرانية ومرّت الأيام تتلوها الأسابيع وبعدها الشهور دون أن تتمكّن الحبيبة الحامل من مغادرة موسكو لأنها كانت ضابطة في المخابرات السوفييتية وجنّ جنون الحبيب الوفي حين علم أنّ حبيبته أجهضت حملها في حادثة سير مروّعة، نجت منها بأعجوبة. حاول الكل المستحيل لإقناعه بأن يغتسل ولكنه أبى وزاد نذره نذراً جديداً وهو أن يعيش على أكل الزيت ولا يقرب اللحم حتى يعاود الاجتماع بالحبيبة المفجوعة. كانت الطامّة الكبرى يوم وصلته رسالة من سيدة الأيام الأبدية بأنها مستحيل أن تغادر الإتحاد السوفييتي قبل مرور خمس سنوات على استقالتها المرتقب قبولها بعد عام. هنا أمسك الحبيب المقطوع عن الظهور في الحياة الإجتماعية وراح يعتكف في منزله بعد عمله ويترجم عن الروسية كتباً تتحدث عن تاريخ الكنيسة الشرقية وشيئاً فشيئاً، اندملت جراح عواطفه بفعل الزمان ولاحظ أهل القرية ميله إلى فتاة مراهقة، كان قد صرّح في أحد الأيام بأنها تشبه أوكرانية حبّه الضائع وحيث أنه يملك أراض شاسعة واسعة فقد وضعت أم البنت عينها على الحبيب السالي كعريس لقطة، يجب عدم تفويته من اليد. كانت البنت غريبة الأطوار، ساهمة واجمة، لها سيماء طفلة وأفكار عجوز وما كان يعرف لها قرار. كانت تصرفاتها غير تصرفات كل بنات القرية اللواتي من جيلها أو غير جيلها وكان والداها يعزوان سلوكها المتناقض إلى مراهقتها التي تعيشها وأنها لابد أن تركز حين تكبر. في يوم قالت له أمها: يا تاء أتأخذ إبنتي زوجة لك؟ أجاب: إذا رضيتْ فأنا أرضى وأكتب لها الأرض. بملعوب أو بمقلب أو بفن نسائي أقنعتْ الأم إبنتها بالزواج وأرسلتْ وفداً إلى اللاذقية، جلب تاء من ثكنته وزوجوهما في نفس الليلة. فُتُّكم بالحديث، إن إحدى الحلبيات وقعتْ في حبّ تاء حين كان يخدم في حلب وماتتْ ليتزوجها ولكنه رفض مقسماً بأغلظ الأيمان، أنه يرفض لأنه قلباً وقالباً لحبيبته الأوكرانية ولا يرفض لعيبٍ في الحلبية ولكنّها، أعني الحلبية، أشاعتْ عنه بأنه قد فقد رجولته بسبب عوامل نفسية تراكمتْ عليه بعد تركه لحبيبة القلب الأوكرانية وأنه بحاجة إلى طبيب نفسي لا إلى زوجة وقالوا أنه أحبّ في شبابه إحدى قريباته فتركتْه وتزوجتْ فتعقّد من النساء وقالوا إن استشهاد أخيه في ألمانيا بتفجير سيارته بعد أن ألقى محاضرة عن عدم شرعية دولة إسرائيل أثّر في نفسه وقالوا إن استشهاد إبن عمّه الطيّار، رفيق طفولته وصباه، حفر عميقاً في نفسيته. المهم تزوج، طبعاً بعدما كتب كل شيء بإسم زوجته، يعني غلط مثلما غلط إبن طه. على كلٍّ حتى لا تقولوا إني أخلط شيء بشيء وأضيّع السامعين، أعود إلى قصّتنا: تاء أخذ زوجته بعد العرس إلى اللاذقية ونزل في نادي الضبّاط. هناك صار ما لا يمكن أن يصير، العروس رأسها وألف عصاية لا تقبل أبداً أن تنام معه في نفس الغرفة وحتى لا ينفضح في الفندق، إدّعى أنهم قد استدعوه إلى مهمة عاجلة فترك عروسه وذهب ونام في الثكنة. في صباح اليوم التالي، تركتْ العروس كل شيء في غرفة الفندق على حاله وعادتْ مع وجهها إلى بيت أهلها في القرية. حضر تاء فأعلموه بأنها غادرتْ فلملم الحوائج ولحقها وهناك كان القيل والقال قد بدأ يتردّد: بعضهم قالوا إنها هربت مع إبن عمّها قبل عام وقضت معه ثلاثة أيام في حلب ثم أعادها أبوها لاستحالة تزويجهما بسبب اختلاف المذهب فأبوها كان قد تنصّر أيام العثمانيين في حين بقي أخوته على دينهم. ثلاثة أيام مع إبن عمها… أكيد صار شيء بينهما وتخاف أن ينفضح أمرها لذلك ترفض أن تستسلم لزوجها. قالت له أمّها: يا تاء! إنها ماتزال صغيرة وأنت تعرف، المفتّحة تخاف من هذه الليلة فكيف الغشيمة؟ إبنتي ماتزال عمياء عن هذه الأمور. انتظر كم يوم وأنا أتكفّل بأن تجري الأمور كما يجب. قال له أبوها: يا تاء! أثبت أنك رجل. اسلخها ضربة على رأسها بيدك، بكرسي، بأي شيء، أفقدها رشدها واقتل الضبع، افتح القلعة وحين تصحو الميشومة يكون الأمر قد انتهى وتجد نفسها إمرأة مثل كل النساء، مركوبة وربما حبلى. هذه حلالك فافعل ما حلالك. أتريد أن أشبحها وأربطها على السرير لتعمل عملتك؟ هذا حقّك يا صهري ولا أحد يلومك في أخذ حقّك بالطريقة المناسبة. من لا تقبل طوعاً تقبل جبراً. المرأة تنسى الذي خلقها ولا تنسى الذي خرقها. البنت تقول: من لا يسيّل دمي على كراعي، لا يستحقّ أن يكون لي راعي. سيّل دمها واقطع سمّها. البنت حين تنفتح، تصير مثل الحيّة المسحوب سمّها.
أجاب تاء: ولكن يا عمّي، أنا لست من هؤلاء الذين يعملون هذه الأشياء. أنا تزوجتُ لأتجانس لا لأغتصب.
قال حموه: الجوز لا يأتي إلاّ بالكسر وبعض البنات مثل الجوز، لا يؤخذن إلاّ اغتصاباً. أما صادف أن رأيت كلباً يركب كلبة أو قطاً يركب قطة؟ أما رأيت أن أمرهما يتمّ بالعنف؟ بعض البنات مثل الحيوانات. إن تركتها على عقلها فلن ترضى بك أبداً. البنت تنتظر أن يجبرها الرجل على الخطوة الأولى وبعد أن ينفتح الطريق، تراها لا تتوقّف عن المشي فيه. قم بالخطوة الأولى وبعدها هي تكمل الطريق. مرّت الأيام تتلوها الأسابيع والعروس راكبة رأسها ورافضة من أساسها أن ترى عريسها فكيف أن تلمسه؟ عرضتْ إحدى العجائز أن تنتقل العروس لتعيش مع أم تاء فلربما هذا يخلق ألفة، تليّن موقف العروس. قالت الأم: صرتُ لها مثل أرض. داريتُها مثل العين الرمدانة. فتحتُ لها قلبي وعقلي على مصاريعها ولكنها مصروعة. فيها شيء غير طبيعي. ما سمحتْ لي أن أبادلها غير السلام. كنّا نقضي اليوم مثل الأفلام الصامتة. قلبي عليها مسكينة. لها علّة وأنا لست طبيبة لأعرف دواء علّتها. حين طلبتْ أن تعود إلى بيت أهلها، أنا حملتُ لها الحقيبة. يا ضيعة صباها! إنها صبية تُحزن القلب وتُسودن الروح. قالت أمها: يا تاء! سأخدّرها لك. سأضع حبوباً منوّمة في شايها وتأتي وتفتحها وهي نائمة فتصحو على الأمر الواقع ويدور دولاب حياتكما. هكذا صار ولكن شيئاً ما صار نفس تاء ما طاوعته. العروس نامت بفعل المخدّر وتاء نام بفعل إنسانيته الرافضة الوسائل البهيمية العنيفة والرافضة الوسائل التحايلية. مرّت الشهور وحضر إبن طه صديق تاء من حلب وقدر أن يقنع العروس بأن ترافقه وعريسها إلى الشام، في محاولة لتقريب قلبها من قلبه وتوليف حياتها بحياته فرضيتْ وسافر إبن طه وزوجته والعريس وعروسه إلى الشام. رفضتْ العروس أن تنام وعريسها في غرفة واحدة أصرّتْ أن تنام وإبن طه وزوجته في نفس الغرفة. مرّة مدّ إبن طه يده تحت الوسادة بالصدفة فلمس آلة حديدية عرف بعدها أنها مسدس. ما هذا يا عروس؟
أجابت: إذا قرّب عليّ ليغصبني فسأقتله. كانت العروس ترفض رفضاً قاطعاً أن تجلس وتأكل حول نفس الطاولة التي يأكل عليها تاء بل كانت تأخذ صحنها وتهرع إلى شرفة البيت الواقع في برزة وتأكل بمفردها وأخبرت زوجة إبن طه زوجها أن العروس تأبى إباءاً باتّاً أن تغسل غسيلها وغسيل عريسها في نفس الغسّالة بل كانت تغسل كل وجبة بمفردها ثم تمسك غسيل عريسها بملقط لا بأصابعها وترميها على سريره دون طيّ. حاور إبن طه العروس سبعة أيام وسبعة ليالي وفي يوم كاد أن يصل إلى حل ولكن زوجته تشاجرتْ مع العروس لسبب تافه مما اضطرّه إلى إيصال العروس إلى الكاراج لتعود إلى بيت أهلها في القرية وإلى أن يترك وزوجته بيت صديقه تاء في برزة ويعودا إلى حلب. وبلا تطويل سيرة عليكم القصّة طويلة وسرّ العروس عند إبن طه.
ست ميم: قصص عجز العريس عن فتح القلعة كثيرة وأغربها قصّة ابن باء. هذا تزوج وهو يعلم علم اليقين أنّه عنّين، محلول لا يطلع معه شيء وليلة العرس، أحسّت العروس على العتمة بأن شيئاً غريباً مريباً يدخل فيها فنطّت وأشعلت الضوء رغم ممانعة العريس. ماذا وجدت؟ شمعة! ناس يقولون: شمعة عادية وآخرون يقولون: لها هيئة عضو فدبّت الولاويل وصارت فضيحة انتهت بالطلاق.
ست كاف: الناس خيالها واسع. قليل من هذه القصص واقعي وكثير منها خيالي. كم من مرة ادّعت عرائس بأن عرسانها عاجزون وما خرج شيء وتطلّقوا ثم تزوج العريس مجدّداً وصار عنده عرّ ولاد.
ست ميم: الناس تشطح في خيالات مرضية. هل يصدّق أحد، أن رجلاً محلولاً، تزوج من فتاة ريفية ساذجة وليلة العرس، أيضاً عالعتمة، أدخل أخاه ليفتح القلعة؟ المرسحية واضحة. طيّب، أول ليلة مشي الحال، أفكل ليلة سيحدث التبادل بين الأخوين؟ لماذا هذا العذاب؟ بإمكان الأخ غير المحلول أن يتزوج الفتاة ولا حاجة لكل هذه التمثيلية. المحلول مشكلته محلولة. يمكن أن يتعالج. الطب الآن قد تقدم وانقرض من العالم العجز الجنسي الذكري وعلى فرض أنّ حالته كانت مستحيلة فيمكن أن يصارح فتاة بحالته وتقبله على علاّته ولاشك تعرفون حالات زواج من هذا النوع وأشهر هذه الحالات: ميم سين التي قد يطوّبونها الآن قدّيسة والتي يقولون أن زوجها ما قاربها من عفّته لا من عجزه وهي رضيت وعاشت سعيدة وجارنا المدهّن إبن قاف، محلول وعلّته واضحة ورغم هذا أخذته إبنة كاف ولا تروحوا لبعيد فمنذ أيام إبنة باء أخذت إبن سين بنفس الطريقة يعني أخذته وهي تعرف أنهما سيعيشان كأخوين.
ست قاف: الشيء بالشيء يُذكر. سمعتُ قصّة من قصص المحلولين هؤلاء فاسمعوا: قال صبيّة جاءها عريس ابن عيلة دارس ومتعلّم وغني ومتأنّق. كامل مكمّل من مجاميعو. رأتْه هذه البنت فارتاحتْ له ومع أنها قد جاءها غيره كثيرون لكنها ما كان يعجبها أحد ولا كانتْ ترتاح إلى أحد من المتقدّمين ومع ذلك فقد ارتاحتْ إلى هذا وقبلتْه ورضيتْ به قانعة مقتنعة ويا عيني أيّا عرس مطنطن أقام لها! فستان غالٍ مثل الأميرات ودبكة ومزّيكة وفرقة شعبية لتغنّي وترقص لهما. هذه البنت فكّرت أنّها لاقت مطلوبها في هذا الشخص وستعيش عيشة مريحةً معه ومع أهله الذين كان يبدو أنّهم أكابر. كلّهم دارسون والأب دكتور لا تقرفوا. في الليلة الأولى شرب العريس حوالي خمسة أنواع مشاريب حتى داخ واندرخ وكاد أن يقع معها وهما في الطريق فسندته إلى باب البيت بعد أن أوصلتهما سيّارة المرسيدس الشبح ويا من يتمنّى! دخلا البيت وكل فكر العروس أن أياماً حلوةً تنتظرها مع هذا الرجل وأنّه ينتظرها على أحرّ من جمر النار ولا يريد سوى أن يختلي بها في بيتٍ بمفردهما ولوحدهما من شدّة شوقه وكثرة حبّه. إيه وفجأةً يتضح للعروس أن هذا العريس لا يريد أن يقرّب عليها مطلقاً وأبداً وأنّه يقرف من كلّ جنس النساء ومن قرفه استفرغ، في وجهكم ماورد، وتقيّأ لها في غرفة النوم حين جرّبت أن تقترب منه وقام فورئذٍ يتحجج طوراً يقول إنّه مصدوم من الزواج وطوراً يقول إن حبّه عذري. حيناً يقول إنّها عقدة ليلة الزواج و حيناً يقول إنّه يخاف أن يوجعها من فرط محبّته لها ثم بدأ يتردد على الأطباء بالخفية عنها ودون علمٍ منها وكل فكرها أنه يحتاج إلى وقت لترتيب نفسه وتوضيب ذاته ليعتاد عليها حيث أنه عديم الخبرة بأمور العلاقات بين الجنسين. قالت لنفسها: لا يهم وما فيها؟ هذه أمور تحدث وهو بلا شك معذور ثم إن هذا الرجل قد صار زوجي وواجب عليّ أن أتحمّله.
ست ميم: طبعاً! واجبنا نحن النساء أن نتحمّل ونصبر على رجالنا ويا تعتيرنا ويا دلنا إذا خالفنا.
ست قاف: إيه وبدأت تسأله عمّا إذا كان يجد أي تحسّن وعمّا إذا بدأ يحسّ بأن نفسه تشتهي تلك الشغلة ولكن عبثاً فقد ظلّ العريس على حاله، لا من فمه ولا من كمّه وشيئاً فشيئاً يزداد تهرّباً وانكماشاً على نفسه دون أن يرغب في عمل أي شيء. ماذا عملت هذه البنت؟ ذهبت إلى أخته التي كان يبدو أنها فهيمة العيلة وحسبتها مثل أختها وفتحت لها قلبها وروت لها ما حدث لتنظر ما الواجب فعله لتحبيبه بهذه الشغلة وقالت لها: لعلّ زوجك يقدر أن يُفهمه ويُدردحه قليلاً ويُعلّمه كيف يتعامل مع الجنس اللطيف. فما كان من الأخت إلا أن اشتدّتْ واحتدّتْ وصاحتْ أخي رجل ومرجلة ولكنّك طفلة مطفّلة. خرجت البنت مكسورة الخاطر وعريسها مثل الحيط ما فيه سوى أن يشوح وينوح ويقول: لا أعرف ماذا أفعل. الحقّ كل الحقّ على أهلي. لا فهّموني ولا عرّفوني أي شيء فعقّدوني من النسوان. أمي كانت تقول لي: لا تُري بنتاً أنك تحبها ولا تقل لها ما يملكه أهلك حتى لا تطمع بنا وبك. البنت التي ستأخذك على مالك، بلا منها وبلاها وبلا ساعتها! ولا تقل لها سرّ شهادتك ولا كيف أنّك اشتريتها من أرمينيا. آه وإتضح للبنت أيضاً أن أهل العريس كانوا يأخذون ابنهم إلى الأطباء: مرةً الى طبيب نفسي ومرّةً إلى طبيب عصبي ومرّةً إلى طبيب جنسي منذ أكثر من عشر سنوات وأنهم ما يزالون يأخذونه إلى الأطباء بعد عرسه ودون خبر عروسه كما لو أنّها بلا قيمة ولا وزن ولا محلّ لها في الإعراب ولا علاقة لها بالموضوع. كان كل همّهم أن يستروا عيب إبنهم ويتلافوا الخزي والفضيحة وأن يعلّموه ويدرّسوه ويدرّبوه على طريقة تعامله مع عروسه بحيث أن لا تكتشف أنّه يتعالج منذ سنوات طويلة عند أكبر أطباء مختصّين في سوريا ولبنان.
ست غين: وما الفائدة وما تعمل الماشطة في الوجه الأعوج والوجه العكر؟ هذا هكذا ويبقى هكذا ومن أين يضعوا له عقلاً ويجلبوا له رجوليةً يا حسرة؟
ست قاف: حكيك صحيح. هذا مثل طفلٍ، لا عقل له ولا شخصية ولا إحساس بالمسؤولية ولا شهية للمرأة. هه وقالوا لي أيضاً: إنّه لا يجيد فعل أي شيء وبحاجة إلى من يرعاه كالرضيع و أنه كاد أن يحرق البيت بعد أن شعلت عروسه المدفأة وذهبت لتتسوق وحدث أن المدفأة فلت مازوتها وأُسقط في يد المسكين وظل جالساً لا يعرف ماذا يفعل والمدفأة تكاد تنفجر إلى أن عادت عروسه من السوق وقطعتْ عنها المازوت. بعد أن اكتشفت العروس خيبته، راحت تعلّمه من حسن التصرّف وكأنها تربّي ولداً صغيراً وظلّت تشجّعه حتى أقنعته بالذهاب إلى طبيب الأسنان لسدّ الكهوف المجوّرة المفتوحة في فمه، حيث أنه كان كلّ ليلة يمرع الوسادة بالدم والقيح.
ست كاف: هذا يعني أن هناك أكثر من دليل على أن هذا ليس برجل ولا بأي معنى من المعاني. مسكينة على هذا الحظ العاطل. المرأة منّا تريد رجلاً تتّكل عليه ويحمل عنها، لا رجلاً يرمي ثقله وثقالته عليها.
ست قاف: أوف ولو تعرفوا أيضاً وأيضاً أي علل كان في هذا العريس أيضاً. كان يعاني من سلس البول وزلق البراز وأي أشكال وألوان كانت ترى على الملاءة والأغطية علاوة على أنه لا يستحم يخاف الماء وكانت كما قلتُ قبلاً تعتني به كطفل حتى لا يُقال: ولولة على امرأته التي تتركه بهذه الحالة طالعة ريحته، الحاصل كان كأنه غير كائن ولا موجود، دائماً ضايع عنها وعن الوجود. كان كأنه لا يرى ولا يسمع ولا يشم ولا يحسّ أبداً وكانت العروس تتضايق وتحشر في نفسها وتكاد تنفلق من غيظها وتضرب رأسها بالحيطان وهو قاعد حوبة شايف وعميان وسمعان وطرشان ولا همّ له سوى أن يأكل ويشخر دون أن يعرف أي واجب له تجاه عروسه سواء بالجسم أم بالروح. ومعلومكم أن كلّ امرأة تحلم أن تصير أمّاً وأن يصير لها أولاد وهذه من أين سيأتيها الأولاد من الروح القدس؟ حاولت أن تتبنّى ولداً يملأ عليها حياتها وينسيها همّها وتعبها ولكن أموراً شرعية وكنسية وقانونية حالت دون ذلك وفوق كل هذا يأتي أهله وينزلون فيها بهدلات ومسبّات وتهديدات على إذا حكيتِ فسنتبلاّكِ وسنخفيكِ من الوجود وعلى إذا بُحتي بمرض إبننا فسنمرمرك ونلفّق لكِ تهمة ونحبسكِ والأدهى من ذلك أنّهم رموا الحق عليها ووصموها بأنها سبب عجز إبنهم والأنكى من هذا وذاك أنهم أدانوها بالجشع والإستغلال واعتبروا أن بقاءها مع إبنهم ليس سوى طمعاً بماله والطامّة الكبرى أنهم برّروا سبب استمرارها مع إبنهم عائد إلى أن لها صاحباً يقوم مقام زوجها وراحوا يشيعون كل هذا على الملأ ويظهرون ابنهم على أنه طالع من قالب مضبوط وسليم ولا يشكو من أيّة علّة والحقّ أنه معطوب ومعيوب، لا عقل ولا قلب ولا شخصية ولا شبوبية وآخر الهوايل وبعد كل هذه العمايل كحلوها فعموها وتبلّوها بالسرقة وهي راضيّة بالبليّة وقاعدة في بيت الزوجيّة وراحوا وجلبوا الشرطة وداهموها ليحبسوها وهكذا اضطرّت إلى ترك بيتها والعودة إلى بيت أهلها وإلى أن تظهر الحقيقة وتبان يكون من ضرب ضرب ومن هرب هرب. لقد ظهر أن هؤلاء الأكابر الدارسين، من برّا خام من جوّا سخّام وقليط ونطّاطي الحيط والآن رفعت قضيّتها إلى المحكمة لفسخ هذا الزواج الباطل المبني على الكذب والغش والمرض والجنون، عساها تخلص من هذه المصيبة التي حلّت بها ومن هذا السجن المؤبّد مع شخصٍ ميّت عالحياة ومع أنّه ألحّ عليها كثيراً وترجّاها أن تبقى معه بلا جنس ولا أولاد مقابل أن يكتب لها كل أمواله وما يملك إنما أنّى وأنّى أن تبقى معه! بعدما غنّت له: إنت فين والحبّ فين وأعطيني حريّتي أطلق يديّ؟ بيني وبينكم سمعت أن أباه عرض عليها أن تحوي عشيقاً بالسرّ وأن تبقى مع إبنه بالجهر.
ست غين: الناس عندنا فاضو الأشغال لذلك يضيّعون وقتهم بالتحرّي عما إذا كان هذا طلع معه شيء أم لا وهذه طلعت عذراء أم لا. لأ ولو أنّ سؤالهم بدافع حل المشكلة لكان هذا فضيلة ولكنهم يتحشّرون لمجرد اللهو. يا ناس الناس ليسوا تسلية.
ست ميم: هل انتهت محاضرتك؟ شكراً. وصلت الرسالة. نحن نريد أن نتسلّى بالناس. أحببتِ أن تتسلي معنا، اقعدي. ما أحببتِ، ما حدا كامشك. أساساً أنت أكثر واحدة تحبّ سماع ونقل الأخبار والآن تريدين أن تعملي علينا واعظة؟ الكنيسة سكّرت يا صبايا هيّا كل واحدة إلى بيتها.
ست قاف: خفّفوا عنكم يا جماعة واضحكوا على هذه النهفة: دعوا أحد أجدادي إلى عرس ليغنّي وكان جميل الصوت ويعزف على العود وخلال السهرة شرب مَن شرب وطرب مَن طرب وانطلقت الأرواح وبدأ المزاح فغنّى جدّي زارني المحلول بدل زارني المحبوب واستمر الهرج والمرج إلى طلوع الفجر وذهب كلٌّ إلى بيته. عند الضحى حضر الرجال مِن أهل العروس وخبّطوا على باب بيت جدّي وحين فتح لهم والنوم في عينيه، رآهم يحملون العصي والهراوات فأغلق الباب وسألهم عن الأمر فقالوا: العريس طلع محلولاً ولا شكّ أنك كنت تعرف ذلك حين غنيّت زارني المحلول بدل زارني المحبوب وجئنا لنعطيك درساً في الصدق إذ كان عليك أن تخبرنا بأنّ العريس غير أهل للزواج وحلف لهم جدّي الأيمان القاطعة بأنه كان يمزح مع المازحين وبأنه لا يعرف حقيقة وضع العريس الرجولي وهكذا انفضّت على خير. ففضوها على خير ولا داعي للخصام على أتفه الأسباب.

الفصل الأول
المشهد الثالث

تخرج ست ميم وست قاف.
ست غين: الحديث بيننا ولا تقولي لأحد. إبنة ست ميم على وجه خطوبة ومن ملعنتها تريد قطع الألسنة من البداية. إنها تخاف أن نقطّع بابنتها فتفكس الخطبة ومعلومك إبنتها على وشك العنوسة وربما تكون هذه فرصتها الأخيرة. نحن لا نريد لها غير الخير ولا داعي لأن تعمل علينا معلّمة فكل واحدة عقلها براسها وتعرف خلاصها. كل واحدة منا حرّة، تقول ما تريد وتفعل ما تريد وكل واحدة مسؤولة عما تقوله وتفعله ولسنا بحاجة إلى أحد يفرض علينا الوصاية. أتعرفين؟ أمس جلسنا أنا وست سين وعددنا البنات المرشّحات ليصرن بركنده. العدد هائل ومذهل. البنات صايرات لبخات. كنا نغلي مثل الدود ونعمل مثل النمل والنحل لنجلب شاب إلى الوجود وننزل على خانته.كنّا لا نترك غريباً ولا قريباً ولا بعيداً إلاّ ونناوشه، لعل وعسى… ونحرّض أمهاتنا ونساء العيلة لا بل نجنّدهن ليلقطن لنا عريساً، مناسباً أم غير مناسب لا يهم، المهم أن يمشي الحال وبعدها مع الوقت غير المناسب يصير مناسباً. بنات اليوم مضربات عن الزواج.
ست كاف: الزمان تغيّر. قوانين الماضي لا تمشي على الحاضر. الآن البنت لها كيانها. تدرس وتعمل وتصرف على حالها. البنت صارت لها حياتها وما عادت بحاجة إلى رجل ليُدخلها الدنيا. صارت في الدنيا. الزواج اليوم مزاج. الزواج ما عاد ضرورة. ما كان يجري قديماً بين الشباب والصبايا في السرّ، صار اليوم في العلن.
ست غين: هذا لا يلغي الزواج. هذا يجعل للزواج شروطاً ومواصفات غير التي كانت في زماننا. أمي وأمك وجيلهما تزوجن على العمياني ونحن تزوجنا على الأعوراني والجيل اليوم يتزوج على المفتّح. البنت اليوم تدير دولة. زماننا راح.
ست كاف: والعيب والحرام؟
ست غين: كل زمان وله عيبه وحرامه. إمّا تكبّري عقلك وتمشي مشية زمانك وإمّا تتركي عقلك صغيراً وتبقي دقّة قديمة فتري كل شيء غلطاً. انظري بعين الحاضر.
ست كاف: نيّالك تقدرين أن تفعلي هذا. أنا لا أقدر. عقلي لا يحتمل.
ست غين: إذن ستتعذبين وستبقين آخر الناس.
ست كاف: إذا كان التمسّك بالأخلاق يضعني في آخر الناس فأنا راضية أن أبقى في آخر الناس. تصوّري! رجل في الأربعينات طلب رسمياً سبعاً وثلاثين بنتاً، ما عدا الفراطة، وما قبلته ولا واحدة منهن ومثله مثائل. هؤلاء لو كانوا في زماننا لهففنهم هفّاً وسففنهم سفّاً.
ست غين: ماذا بكِ؟ هل فقدت ذاكرتك؟ كم وكم من أبناء وبنات الكبر موجودين من زمان ستّاتنا وأمهاتنا وزماننا؟ الرجال الذين يخافون النساء كثيرون والنساء اللواتي تخاف الرجال كثيرات. الزمان كالزمان والناس كالناس، إنما الوجوه تتغيّر. بعدها دخيلك لو كل الصبيان والبنات تزوجوا لأكلت الناس بعضها. ألا تتفرجين على التلفزيون؟ ألا تسمعينهم يتكلمون عن التوازن البيئي والتوازن السكّاني وهلم جرّاً؟
ست كاف: أسمعهم ولكن لا أفهمهم. عقلي على قدّي لا يمدّ. لا أعرف لماذا لا تفوتني فوتة حين أتحدث مع الناس وأشرد وأنا أسمع حديث التلفزيون؟ ما لي صبر. حتى المسلسلات، مهما انجذبت إليها، يخف اهتمامي بها شيئاً فشيئاً لدرجة لا أعود معها، اسأل عنها أبداً. الكلام الواقع مع الناس شيء آخر. التلفزيون معلاق شاحط. منذ أيام حضرت ست ميم لزيارتي وحدّثتني عمّا فعله بها أخوتها وأخواتها، بعدما عادت من فنزويلا، أرملة ومعها ولدان. بخمس دقائق فهمت كل القصة. جاءت معها ضبّة. أعطتها لأبيها وأبوها دقّ صدره بأن يحافظ على أموالها كما يحافظ على أمواله ولكن الأب مات ونكر الأخوة والأخوات الحنّة وأثرها وقالوا لها: حسابك مع أبوكِ، روحي حاسبي أبوكِ. المسكينة انجلطت وانفلجت. جاءت عندي تجرّ رجلها وتحمل يدها. بعدها حنّ قلب أخيها البكر عليها فأعاد لإبنها محلاً وكتبه بإسمه ومليح كانت قد تركت بيتها بإسمها. كل مالية أهلها منها ورغم هذا، لا أحد يتعرّف عليها. المحبة مثل المليحة ضائعة من يوم يومها. يعني إذا صارت أختكم لكم غنمة، ضروري أن تصيروا أنتم ذئاباً وتأكلوها؟
ست غين: غريب كيف أنّ الناس لا يتعلّمون. تجدين في كلّ العيل قصصاً متشابهة حول أكل الأخوة والأخوات لحقوق بعضهم البعض. حطّي مصراتك بالجنطي، أمّك وأبوكِ لا تعطي! مصراتك بعبّك، بتشتري أبوكِ وأمّك! وهل أنسى أنا ما عمله عمّي بعد وفاة أبي. عيّنته المحكمة وصيّاً علينا وعلى تركة والدي المرحوم فتاجر بأموالنا ولهف الأول والآخر وما ترك لنا شيئاً وكان يقتّر علينا في النفقة المحكوم لنا بها وحتى كان يأخذ منا ثمن طوابع المعروض الذي كان علينا أن نقدّمه لنحصل كلّ شهر على النفقة وصار هو وعائلته وتصوّر ونحن عشنا قرحطة في العدم ولا أفهم كيف أنَّ زوجته التي كانت خالتي أخت أمي اللزم، كيف كانت تقبل بهذا؟ وقيل أنها كانت تحثّه وتحضّه على ظلمنا وعلى تشليحنا أموالنا وحتى أنَّ أبناءه وبناته كانوا يتنصّلون من قرابتهم بنا إذا سألهم أحد عن تشابه الكنية بيننا وبينهم. كانوا يرفلون بالعزّ ونحن طز لا تؤاخذيني. إيه! لا تفتّقي لي جروحاتي وتجننيني. السكوت أفضل.
ست كاف: الناس لا يتعلّمون وكأنهم لو تعلّموا لتغيّر ميزان الكون. صرت في السبعين ونفس القصص تتكرّر سنيناً بعد سنين. هل أعدّ لكِ جرائم القتل العائلية التي مرّت على رأسي بسبب الخلافات المالية؟
ست غين: أبوس يدك، قلبي من الزعتر معتّر ومسكّر. دعيني من هذه القصص المعثّة! رضعنا مع الحليب أنّ المال يفرّق الأهل عن أولادهم والأخ عن أخيه ولكن الناس لا يريدون أن يتعلّموا. الناس عندنا يحبّون أن يغرقوا في المشاكل. الناس يخلقون مشاكلهم بأيديهم ثم يعشقون مشاكلهم ولا يريدون أن يحلّوها. لو أنهم يريدون لما خلقوها أصلاً. احكي لنا شيئاً يبهج الخاطر فقد عمي قلبي من قصص المآسي.
ست كاف: ست شين تعرفينها؟ حبلت إبنتها بعد ثماني عشرة سنة من العقر في فنزويلا. العلم صار يعمل عجائب. قال كانت ترى دوماً في نومها أنها ترضّع إبنها وصدق منامها.
ست غين: تقولين حبلت؟ انتظري لتلد فما كل من حبلت أنجبت وقامت بالسلامة.
ست كاف: افتحي فمك على خير. أنتِ نفسيتك مسودنة. حكيتُ لكِ خبراً مفرحاً وتريدين أن توسوسي فيه. تعرفين المهندس إبن ألف، ظهرت له إبنة في ألمانيا وجاءت تزوره وحيث أنه بخيل فقد استاء من زيارتها ولكنها طمأنته وقالت له: حكت لي أمي عنك كل شيء فلا تخف. قد جلبت معي مالاً لأصرف عليّ وعليك ووعدته أن تقضي معه شهراً كل سنة فقال لها: مادمت أنت التي ستصرفين فيا ليتك تبقين على الدوام.
ست غين: لا أعرف ماذا سيفعل بكل هذه الأموال؟ ويا سعد الورثة!
ست كاف: خبر سعيد آخر: إمرأة صاد تركها أبوها وهي صغيرة واختفى وكبرتْ وتزوجتْ وعملتْ لتربّي أولادها. الآن بعد كل هذه السنين خابرها بالهاتف واستسمح منها وقال لها إنه على فراش الموت في فنزويلا وسيرسل لها ولأولادها الثروة التي جمعها ومنذ أيام أبلغهم المصرف بوصول التركة. يقولون أنّه مبلغ مرقوم ولكنهم لا يبوحون بسرّه.
ست غين: ذكّرتِني بقصّة الأرمنية التي كلما كانت ترى صورة الممثل يول براينر، كانت تقول هذا أخي والناس كانوا يضحكون عليها ويقولون عنها خرفانة وفي يوم أرسل يول براينر رسالة إلى مطران الأرمن في حلب وقال له: لي أخت في حلب تعرف علامة في جسمي فإذا أرسلتْها لي في رسالة تركتُ لها كل ثروتي فأنا أعاني من سرطان عضال وعلى وشك الموت وقالوا أنها أرسلتْ له العلامة وذهب أولادها واستلموا المبلغ من سويسرا. هكذا قالوا ولا تأخذي مني غير الكذب.
ست كاف: الناس يقولون ولا نعرف متى يخترعون ومتى ينقلون الحقيقة. إبنة فاء أضاعت إسوارتها الجنزير وحابت ولابت عليها حتى ذاب قلبها وما لاقتها. وزنها ربع كيلو ذهب فكيف لا تطق عليها؟ منذ أيام وهي تنظّف جرار الجبنة، عثرت عليها في إحدى الجرار. سلتت من يدها في الجرّة دون أن تدري.
ست غين: المحظوظة محظوظة. إبنة عيلة غنية، أخذت غنياً وزوّجت بناتها لأغنياء، فقط أبناؤها خالفوها وأخذوا فقيرات ولكن هؤلاء الفقيرات صرن وتصوّرن لأنهن دارسات وعاملات.
ست كاف: لست أفهم من أين دخل في ذهن رجالنا أن المرأة يجب أن تتستّت وتقعد في البيت. الحلبيات غنيات وفقيرات كن يعملن. كان في كل بيت تقريباً دولاب حياكة، تعمل عليه النساء وكنَّ خيّاطات ومجبّرات وممسّدات و… إلخ ولا أعرف من أين طلعوا لنا بهذه الفنّة، فنّة أنه عيب على الرجل أن يترك إمرأته تعمل وأن ست البيت المستّتة أعلى منزلة من المرأة العاملة. أمنا العذراء، شرّف اللّه إسمها، كانت تغزل وتحوك ولها صور وأمامها دولاب النول.
ست غين: الحال قد تغيّر. غالبية الرجال الآن يبحثون عن زوجة عاملة ويرفضون الزواج من البنات الطبنّات غير الدارسات ولا العاملات. العصر عصر علم وعمل وهؤلاء الرجال الذي تتحدثين عنهم صاروا في الزبالة وأحوالهم زبالة. ياما أغنياء فلّسوا والآن يعيشون على رواتب زوجاتهم الدارسات العاملات.

الفصل الأول
المشهد الرابع

الباب يدقّ، تذهب ست كاف وتفتح وتعود برفقة امرأة.
ست كاف: أهلاً ست جيم.
ست جيم: أما سمعتم؟ البلد مطبولة، عاشر محل صياغة يُنهب هذه السنة. الحرامية اشتروا البيت الملاصق للمحل وخرقوا الحيط وسرقوا الخزنة بما فيها من ذهب. ناس يقولون أربعة عشر كيلو وناس يقولون عشرين.
ست كاف: الحرام أقدم صنعة في العالم والدنيا من يوم يومها تمشي على دولاب كبير اسمه الحرام ودولاب صغير اسمه الحلال. كل فترة يعيدون نفس الأسطوانة: فلانة سرقوا لها حقيبتها وهي في الطريق وفليتانة شدّوا جنزير الذهب من رقبتها وعلاّنة جاءت لتصرف ألف ليرة فشبطوها وهربوا وعلتانة أعطت سائق التكسي خمسمئة ليرة ليقطع إجرة التوصيلة خمسين ليرة فسحب بالسيارة مع وجهه. الدنيا مركّبة على الغلط، على الحرام.
ست جيم: يا ستّي! اكتشفتْ أم ضاد أن إبنتها حبلى ومن هنا إلى هنا اتّضح أن الفاعل هو زوج أختها.
ست غين: قصة مين تحكين؟
ست جيم: أحكي قصة مضى عليها نصف قرن ولكنها تتكرّر جيلاً بعد جيل لتعلموا أن ما قاله سليمان الحكيم: لا جديد تحت الشمس. هو صحيح مئة بالمئة. المهم تركوا للصهر إبنتيه وإبنة حميه الحبلى وهاجروا في ليلة ليلاء دون حسّ ولا خبر إلى فنزويلا. ولدت الحبلى وجلبت صبياً ثم حبلت ثانية وجلبت صبياً ثانياً وصارت تربي إبنيها وإبنتي أختها وفي يوم اكتشفت إحدى جاراتها أن إبنتها حبلى من هذا المنظوم نفسه الذي حبّل الأختين وإذ شاع الخبر، اختفى الرجل وكالعادة، ناس يقولون راح إلى تركيا وناس يقولون إلى لبنان. حين ولدت بنت الجيران، أخذ أبوها البنت المولودة ورماها في حضن الأخت: صاحبة الجار الهارب وهاجر مع زوجته وإبنته إلى أميركا. الأخت كانت شاطرة. نظرت فرأت نفسها أم لخمسة أولاد فبدأت تتعلم الخياطة وصارت خيّاطة مرموقة وكانت عندها صانعة ضيعجية، قصتها عجيبة غريبة. جاءت إلى معلمتها وقالت لها: أنا حبلى من أبي وأبي وأنا لا نريد أن نروّح الولد فأعطاني مبلغاً من المال وقال لي دبّري رأسك واشتغلي أي عمل كان لتعيشي وأنا كلما توفّر لدي نقود أرسلها لك. صارت هذه الصانعة مثل شقيقة روح هذه الأخت الواقع على رأسها كل هذا العبء الكبير. مرّت الأيام وبالتدبير وسعة الحيلة وحسن الوسيلة، ربّت هذه المرأة الأولاد الخمسة مع إبن صانعتها وزوّجتهم أحسن زيجات. هنا عادت إلى الظهور أختها وصارت تلاحق إبنتيها وظهر الجار وراح يلاحق حفيدته وظهر الأب وأخذ يلاحق أولاده للتكفّل به والنفقة عليه وعلق الجميع مثل كبّوش خيطان مخردع وما كان قد بقي لدى الأخت الخيّاطة غير صبي واحد أعزب فعلق بشباك صبية فنزويلية حلبية الأصل تعيش على كيفها. صبية لا تكاد تتعرف على شاب حتى تعاشره وكأنه زوج حميم وظنّ ابن الخيّاطة الغرّ الغشيم أنها لأنها نامت معه فإنها تحبّه وصار يسعى إلى خطبتها والزواج منها فقالت له: أبي سيصل بعد شهر ويمكنك أن تتفق معه وحين وصل الأب، اتّضح أنه خاله. هنا علقت البغلة. أهل الأخت الخيّاطة كانوا قد نسخوا أختهم من العيلة لأنها حبلت من زوج أختها فكيف يرضون الآن بهذا الزواج المخزي؟ البنت دائماً لها أثر على أبيها ومن هنا إلى هناك، ظلّت إبنة الخال توسوس في رأس أبيها إلى أن رضي بالزواج، شريطة أن يقطع ابن أخته، صهر المستقبل، صلته بأمه قطيعة تامة وزاد في أنه ركب رأسه ورفض أن يقدّم إلى العروسين أية مساعدة مادّية. العروس رفضت أن تسكن مع حماتها في بيت واحد وأم العريس، زيادة في التضحية، تركت البيت لابنها وراحت وسكنت عند صانعتها ولكن مراسيم الزواج لم تتم قبل أن يكتب العريس البيت باسم عروسه ومع الأيام، اكتشف الزوج أنه لم يكن الوحيد الذي حظي بالنومة مع الفنزويلية اللعوب وبأنها إذا كانت قد أقنعته بأن حبه لها يجب أن يقلب صفحة ماضيها فإن هذا الحب مهما كان لا يمكن أن يجعله يقبل بشركاء معه في زوجته وهكذا فقد الولد عقله وساح في الحارات. أما الأم فقد سحبها ابنها إلى أميركا ليخلّصها من الذل والإهانة وكان ابن الصانعة قد صار مسؤولاً مهمّاً وأخذ يرعى المصروع الضائع في الشوارع إلى أن أمّنه في أحد المصحّات العقلية. أبو العروس حين رأى ابنته قد صارت ملاّكة، طلّقها من زوجها بسبب أن زوجها فاقد الشعور وزوّجها ابن عشيقته الصايع الضايع، واعداً إياهما بأن يتكفّل بمعيشتهما ما داما تحت طوعه واتّضح أخيراً أن هذا الصايع الضايع يتصنّع الفسق والخلاعة وتعاطي الحشيش والدعارة ولكنه في الواقع عميل سرّي في الجاسوسية العالمية. مقصود حديثي أن الحياة مهما تعقّدت، تستحق أن تعاش. الحياة مهما حدثت فيها أمور غريبة، ربما تدهشنا، تظل فيها احتمالات حدوث أمور أغرب. الناس يبحثون ويسألون دائماً عن السبب أو عن الأسباب. غير ضروري أن يكون لكل شيء سبب. غير ضروري أن يكون لكل تغيّر أسباب. الأحداث الخارجة، المعزولة عن الأسباب أكثر من الأحداث التي لها سبب.
ست غين: واضح أنك مع سياسة هكذا ولكن هكذا ليست دائماً هكذا هناك هيك وهيك وأول هيك غير ثاني هيك وهيك إلى ما لانهاية. تعالوا نحكي عن أنفسنا. يكفينا هرفاً على الناس وماذا يأتي من الناس غير وجع الرأس؟
ست كاف: دعينا من أنفسنا فنحن ما عندنا حديث غير بيتنا وأولادنا وأكلنا وشربنا ولبسنا وإلى آخره من أمور تافهة. الحكي عن الناس يفتح الرأس. الحكي عن الناس، سواء له أساس أو ما له أساس يفيد. كانت ستي تقول: خذوا لكم عبرة من هذه العبارة وتحكي قصة، قصة واقعية أم خيالية أم فيها هيك وهيك؟ لا يهمّ. المهم قصة يمكن أن يستخلص كل واحد منها عبرة. الحكي عن أنفسنا دوماً يجذب الخصام، أنفسنا تُدخلنا في أمور ذاتية، شخصية، تجعلنا نتشاكل ونتقاتل. أما الحديث عن الناس فيجرّنا إلى الوفاق وإن اختلفنا، نكون قد اختلفنا على أمور لا تخصّنا ومن حيث أنها لا تخصّنا فإنها تعود وتجرّنا إلى الاتفاق. ابن جيراننا عالق بواحدة تكبره بسبع سنين ويصر على ألاّ يتزوج غيرها وأبوه وأمه مثل مصطولين لا يعرفان كيف يتصرفان. يقولون أن البنت جاهلة أيضاً، آتية من ضيعة، أمية لا تقرأ ولا تكتب وما فيها شيء يجذب. طيب ما الذي يهمّني في الموضوع؟ الأمر معزول عني. أتحدث عنه دون إحساس يعني دون أن أنخبط وأنزعج فالأمر لا يخصّني. لا الولد ولدي ولا البنت بنتي. أنظر إليه من الخارج.
ست جيم: معك حقّ. الحكي عن الناس رياضة عقلية وفكرية، تجعلنا نعيش الحياة بكلّ أحوالها. ما يخصّنا هو أمر واحد أما ما يخصّ الآخرين فأمور عديدة وكلما تعاطينا الحكي عن الناس صرنا أفهم وأعلم.
ست كاف: أنا مع أن يتزوج ابن جيراننا الفتاة المذكورة. له أسبابه الخاصة التي ليس من الضروري أن أفهمها أو أن أقبلها وأنا مع أهله في أن لا يرضوا بهذا الزواج. أيضاً لهم أسبابهم الخاصة التي ليس من الضروري أن أفهمها أو أن أقبلها. لماذا أنا مع الطرفين؟ لأني لست طرفاً في المشكلة فالمشكلة عندي ليست مشكلة. الأطراف الأساسية هي الوحيدة التي يحق لها أن تقرّر وعلينا أن نحترم قراراتها لأن كل واحد أقدر على فهم حالته وحالة من معه. نحن الأطراف الخارجية نعلّق، نفسّر، نحلّل، نتفلسف، نتفزلك وفي كل هذا نتعلّم وفي النهاية نعيش، نشارك في الأحداث وإذا كانت مصائب نقول: حوالينا ولا علينا وإذا كانت خيرات نقول: الذي أطعمهم فليطعمنا.
ست غين: الحديث يجرّ بعضه والإنسان حيوان ناطق. يلومون من يحكي والحق يجب أن يلوموا من يسكت. الحكي دليل إنسانيتنا. تذكرون قصة إبن حاء الذي أحبّ معلمة المدرسة بنت جيم وحين لم تبادله الحب، قتلها وحوكم وانسجن ثم خرج بعفو بعد كذا سنة قضاها في الحبس. كان أبوه قد سافر إلى أميركا هرباً من الفضيحة ومنذ سفره لم يعرف أحد عنه شيئاً. ما أراد أن يترك أثراً ولا أراد أن يبعث خبراً وهكذا وجد القاتل نفسه وحيداً، منبوذاً فعاد إلى معاشرة أبناء السوء ثم نصحه أحد الكهنة بأن يهاجر إلى أميركا ويبدأ حياته من جديد مع أناس لا يعرفون عن ماضيه شيئاً وسمع الرجل النصيحة وسافر إلى الأرجنتين وهناك التقى بأفراد عصابة عرب وصار يعمل معهم. حيث أنه كان يجهل لغة البلد ولم يجد غير هؤلاء الأشرار ليتفاهم معهم. الحرام مربح وفي فترة بسيطة، اغتنى القاتل ولكنه لم يتب عن السرقة. في ليلة، دخل إلى بيت ليسطو على ما خفّ وزنه وغلا ثمنه فقاومه صاحب البيت وقتله واحزروا من كان صاحب البيت؟ كان والد القاتل بالذات. لقد دار الزمان ودار وانتهى بمصادفة عجيبة قتل الأب ابنه يا ستّار!
ست كاف: لو قرأنا القصة التي حكيتِها في كتاب أو رأيناها في فيلم لقلنا أنها من نسج الخيال. كان جدي يحكي حكاية طويلة، أذكر فحواها ولا أذكر مجرياتها. كانت فحواها أن هناك عدالة طبيعية حتمية لابد إلاّ أن تحدث فتنصف المظلوم وتقاصص الظالم وكان جدي يصرّ على أن هذه العدالة الطبيعية هي غير العدالة الإلهية التي تتحدث عنها الكتب السماوية. مسكين كانت الناس قد أكلت أمواله بعد أن عاد من المهجر ومات وهو ينتظر تلك العدالة الطبيعية لتعيد إليه حقوقه المغتصبة وأذكر أنه قبل أن يموت بشهور قال لي: يبدو لي يا ابنة ابني أن هذه الدنيا مركّبة على الفوضى والنظام أوهام. هذا العالم قائم على الظلم والعدل فكرة موجودة في العقل لا في الواقع ولكن الإنسان يظل يتأمّل حتى يتحمّل. لا تؤاخذوني فعليّ أن أذهب لتعزية ست ألف في وفاة زوجها. مسكين أيضاً. قضى عمره ينتظر العدل والإنصاف. قضى عمره في المحاكم وما توصّل إلى شيء. ما تركه الحرامية أخذه المحامية وكان دائماً يردّد: على اللّه وفي اللّه واللّه كبير وأنا أترحّم عليه كثيراً كلما سمعت أغنية زياد الرحباني الجديدة: من يومها شو عاد صار وع مدى كذا نهار، كل يلّلي صار وعم بصير، اللّه كبير. أتصدّقون بعد كل ذلك العز والجاه، أن أرملته مضطرة إلى ترك البيت الفخم الذي كانت تعيش فيه وتستأجر غرفة وصالون لتقضي بقية حياتها؟
ست غين: قلبي عليها، أولادها ينكرونها لأنها كانت تقف ضدّهم مع أبيهم زوجها وتسايره في أغلاطه. كم حاولوا أن يقنعوه أن شغل الفايظ بايظ وأن التجارة خير وسيلة للربح ولكنه لم يقتنع وظلّ رباوياً ومع أنه فلّس ظلّ يؤمن أنه سيستعيد أمواله أضعافاً مضاعفة وظلّ يذكر وقائع دامغة عن أناس كانوا في الحضيض وصاروا في القمة عن طريق التديين بالفائدة. كل عمره سخر من أولاده لأنهم كانوا يؤمنون أن اليهود يحكمون العالم لأنهم تجّار في حين أنه يؤمن أن اليهود يحكمون العالم لأنهم يعملون بالربا.
ست جيم: أنا صرت أؤمن أن في الإنسان ميل إلى شيء معيّن، ميل ثابت ومحدّد لا يغيّره شيء. إنَّ كل حكم ومواعظ الماضي لا تفيد ولا تُقنع أحداً أن يغيّر ميله. ابني واقع في هوى بنت، الكل يؤكدون له أنها عاطلة وغير مناسبة له ولكنه يميل إليها ومقتنع إلى حدّ التحجّر أنها سعادته الوحيدة بين نساء الأرض. ما بقي أحد إلاّ ووعظه وحكى له قصصاً وروايات عن غرام مشابه لغرامه، انتهت كلها بالفشل والخيبة والجنون والموت ومع ذلك لا يقتنع. المواعظ كلها فاضية. كل ساعة بل كل دقيقة الناس يعاودون الوقوع في نفس الأخطاء وسيظلّ هذا جارياً إلى أبد الآبدين. كل واحد يستفيد من معطيات المعارف والعلوم لتحقيق ميله مهما كان أعوج. أطلت عليكم. المختصر: الدنيا عوجاء والناس عوج والتقدّم لم يصلح اعوجاج البشر ولا اعوجاج الدنيا. مجنون من يفكر أن يبقى سويّاً في هذا العالم الأعوج وأحسن حل أن نترك كل واحد على عقله، على ميله وليتحشكل مع من يتحشكلون. خذي أنا ماذا نفعني عقلي؟ من عيلة جهّال طلعت دارسة وطلبني أستاذ قدّ الدنيا وصانع نجّار مياوم، يوم يعمل يأكل ويوم لا يعمل لا يأكل فأخذتني أمي إلى أبو يوسف الضرير وكان يقرأ الطالع فقال لي: الأستاذ سيوجع لك رأسك كثيراً، نجمه قلق ونجمك أقلق ولا تتطابقان. خذي صانع النجّار، إنه على حبّته وسيكون خاتم في إصبعك وقامت القيامة فوق رأسي. كيف أنا الدارسة آخذ أميّاً، جاهلاً، صانعاً عند أبيه، لا يملك طعام يومه ومايزال يأكل ويشرب على سفرة أبيه. لكني أحببته والقلب له أحكام. تعلّم القراءة والكتابة وكانت له نقرة عود تسحر وصوت يجنّن، لا تفرّقيه عن محمد عبد الوهاب أو فريد الأطرش واكتشفت أن الأستاذ الذي طلبني كان يعمل مع المخابرات الفرنسية وقت الإنتداب وأنه كان يجنّد فتيات محجّبات ليتجسّسن على المجاهدين لصالح الفرنسيين وأن أحد المجاهدين خبطه بنبّوت على رأسه وسبّب له خضّة في دماغه وهذا ما قوّى موقفي في رفضه وهكذا تزوجت ابن النجّار ومعنا معنا، بالشغل والقناعة، اشترينا بيتاً بعد أن كنا نسكن في غرفة مع الجيران وصار لنا أولاد يفتحون القلب، أولاد دارسون ومتعلّمون وأصحاب شهادات وتعرفون ماذا جرى بعد ذلك؟ مسكته مسك اليد بالجرم المشهود مع أختي. هذا الطيّوب، الحبّوب، الملاك، الخاتم في إصبعي، صار خنجراً في قلبي ودوّاخة في دماغي.
ست كاف: الأمان مفقود في هذا الزمان وفي كل زمان والثقة معدومة في كلّ البشر حتى مع أقرب المقربين إلينا. لا ثقة غير الثقة بالنفس ولا أمان غير أماننا بذاتنا. تأخّرت على التعزية.
ست غين: قد نلحق بك لنأخذ بالخاطر.

الفصل الأول
المشهد الخامس
تخرج ست كاف، يدقّ الباب وتدخل سيّدة محجّبة الوجه.
ست جيم: أهلاً شين خانم. من زمان القمر ما بان. عاش من شافك. ما أخبارك؟
شين خانم: لا شيء يسرّ الفؤاد. كل أخباري تغمّ القلب.
ست جيم: سين نائم. هدا له حديثنا فغفى. هه! يبدو أنه صحا على صوتك. أنا و غين مضطرّتان لأن نترككما وحدكما لأننا مشغولتان. اعذرينا. نراك قبل أن تذهبي.
سيد سين: أهلاً أهلاً شين خانم! منذ أن كنت صغيراً وأنا أحب أن أغفو ومن حولي نساء يثرثرن. ثرثرة النساء ممتعة ومفيدة. ما تزالين على عادتك مثل القمر لك غطّات. أين كنت في هذه الغطّة؟
شين خانم: الناس يظنّونني مرتاحة وأنا طالعة من مناحة. ابنتي التي ربيتها كل شبر بندر، أعطتك عمرها. أحبها شاب يتيم، عاقل ومستقيم، يعيش مع أخته الوحيدة. آه من أخته! صارت تعذّب ابنتي في غياب زوجها، عذابات الشهداء ولحظة علمتْ أنها حبلتْ، راحت تفعل المستحيل لتجعلها تجهض. صارتْ تجبرها على حمل الأغراض الثقيلة وحين أعيتْها هذه الطريقة، بدأتْ تضربها على بطنها وظلّتْ على ضربها ذاك حتى أجهضتها.
سيد سين: كأنك كنتِ معنا في أول حديثنا. كنّا نتحدث في سلطة الأخت على أخيها وظلم بنات الحمي لزوجات أخوتهن.
شين خانم: انتظر القفلة. أجهضتْ ابنتي وظلّتْ تنزف صامتة وحين حضر زوجها ورآها في هذا الحال، أخذها ألى المستشفى وهناك أعطتك عمرها بعدما باحتْ لزوجها بكل فعايل أخته معها. هنا جنّ جنون صهري ، فمضى وقتل أخته وانتحر.
سيّد سين: لو رأينا حكاية ابنتك في فيلم، لقلنا أنها خيال في خيال.
شين خانم: حياتي مسلسل وليست فيلماً. تعرف، أمي ابنة غير شرعية، كانت لقيطة، جلبتْها إلى حلب عايلة مهجّرة من لواء اسكندرون. كان ربّ هذه العيلة طبيباً درس في فرنسا وتعَلْمنَ هناك وهكذا نشأت أمي علمانية ودرستْ و تربّتْ في حلب وفي أول صباها عاشرتْ مسيحياً وحين حسّتْ بأنها حامل ذهبتْ إلى لبنان وهناك ولدتْني نسخةً عنها. أنا أيضاً ابنة غير شرعية وأيضاً علمانية بحكم التربية والدراسة. أيضاً عاشرتُ مسيحياً وحين عرفتُ أني حامل، عدتُ إلى ما يسمّى بيت نانتي وجدّي في حلب. ولدتُ أيضاً ابنة غير شرعية ولكن ابنتي لم تتابع سيرة نساء أسرتها في العلمنة بل تمشيختْ وأحبتْ هذا اليتيم، العاقل المستقيم وانتهتْ وانتهوا كما أخبرتُك. أمران يساعدانني في حياتي، أولهما أني أؤمن بالإنسان لا بل الأديان، العلم يخفف عنّي الأحزان. وثانيهما العمل. عملي منقذي الأول والأخير ولولا علمي وثقافتي لقتلتْني مصيبتي.
سيّد سين: ما تزالين في الثلاثينات، فلماذا لا تنجبين من جديد؟ الحبل والولادة وتربية الطفل تجدّد الحياة.
شين خانم: كأنك في رأسي. استشرتُ طبيبي وسأسعى إلى الإنجاب.
سيّد سين: أيضاً خلفة غير شرعية؟
شين خانم: طبعاً لن أخون تراث العيلة ولن أصير مثل تلك التي مات حبيبها فزوّجها أهلها لتنسى وبعد أن بلغ أصغر ولديها العشرين طلبتْ الطلاق وكانتْ طيلة السنوات الماضية تحمل صورة حبيبها الأول كذخيرة مقدّسة في عنقها وقد عرضوا عليّ مهندساً مهجوراً مهووساً بالدين ولكنه على ما قال، لكثرة السيول الخرافية في الكتب المقدسة بدأ يميل إلى العلمانية، كما أنه مهووس بجمع المال وربما يكون هوسه بالدين تغطية لهوسه بالمال وقد استغلّتْ زوجته الأولى، بعد ثلاثة أشهر فقط من زواجهما، تكالبه على المادة وأقنعته بأنها إذا سافرتْ لتكمل دراستها في الغرب فستعود بشهادة أعلى وستربح مالاً أكثر. طمع واقتنع وما إن سافرتْ حتى كبّته وتزوّجتْ غيره. عملي في جمعية رعاية المعنّفات وسّع آفاقي التي سبق وكانت مفتوحة. خلاص البشرية في الحرية الجنسية. الزواج الديني عبودية وتخلّف. الزواج المدني أفضل قليلاً. أبحث عن كلمة ترادف الإباحية وليس لها هذا المفهوم اللا أخلاقي. أتظنّ أن كلمة أريحية تنفع في هذا الموضع؟
سيّد سين: يمكن أن تنفع ففي القصص الشعبية، قصّة عن قصر فيه إناث يعشن إباحية بمفهوم أخلاقي، دون أي صبغة لا أخلاقية وتسميهنّ هذه القصص: الأريحيات.
شين خانم: منيح أنك ذكرت القصص الشعبية، فأحد أسباب زيارتي هذه قصّة شعبية تذكرتُك حين سمعتُها وقلتُ إنكَ ولا شكّ ستَفرح لضمّها إلى مجموعتك.
سيّد سين: ظنّك في محلّه فأنا لا أشبع من القصص الشعبية. تفضّلي…
شين خانم: ملك ووزيره تنكّرا وراحا يتفقّدان أحوال الرعيّة فمرّوا بإسكافي صعد إلى مئذنة جامع قرب دكّانه وأخذ ينادي…أنا هون…أنا هون…أنا هون… ثم دخلا حانةً ليرتاحا، فرأيا رجلاً يطلب إبريق خمرٍ ويصبّ في أربعة أقداح ويشربها ويكسر الأقداح ويخرج. بعدئذٍ خرجا فصادفا رجلاً يعطي المارة دلاءً مليئةً ذهباً ويطلب منهم أن يضربوه على رأسه بأحذيتهم. حين عاد الملك إلى قصره قال لوزيره: أئتني بقصص هؤلاء الثلاثة حالاً وإلا قطعتُ رأسك. مضى الوزير إلى الإسكافي وأغراه ببعض النقود بعد أن كشف له عن شخصه وسأله أن يحكي له حكايته فقال الإسكافي: صعدتُ فجراً لأؤذّن فإذا بنسرٍ يخطفني ويرميني في قصرٍ منيف ويقول لي: في هذا القصر ثلاثمئة وخمس وستون غرفة. تقدر أن تعيش كل يوم في غرفة فتجد فيها ما تشتهي نفسك في ذلك اليوم وحين تصل إلى الغرفة الخامسة والستين، تقف وتعيد الكرّة وإياك ثم إياك أن تفتح باب الغرفة الخامسة والستين. عشتُ كل يومٍ في غرفةٍ وفي لذّةٍ تتزايد يوماً بعد يومٍ إلى أن وصلتُ إلى الغرفة الخامسة والستين فقلتُ لنفسي: تُرى هل بقيتْ هناك لذّة أكبر من اللذّات التي ذُقتها خبيئةً في هذه الغرفة؟ ودون وعيٍ فتحتُ الباب فإذا بالنسر واقفٌ أمامي وإذا به يخطفني ويعيدني إلى المئذنة ومنذئذٍ وأنا أصعد للأذان وأنادي: أنا هون….أنا هون….أنا هون….لعل النسر يسمعني ويعيدني إلى قصر السنة الذي فيه ملذات الدنى. هزّ الوزير رأسه واتجه صوب الحانة وجلس ينتظر الرجل الذي يكسر الأقداح بعدما يشربها. حضر الرجل وطلب طلبه المعتاد فقام إليه الوزير وكشف له عن شخصه وسأله أن يروي له قصته. فقال: ناداني أبي وأنا شابٌ يافع صائع ضائع واصطحبني إلى اسطبل القصر وبعد أن دخلنا قال لي: يا ولدي إن سوء سلوكك ومصاحبتك لأصدقاء السوء سيجعلانك تهدر كل ثروة العيلة وسيصيبك اليأس وستفكر بالإنتحار وكل ما أرجوه منك أن تشنق نفسك على هذه المشنقة التي أعددتُها لك داخل الإسطبل وأراني حبلاً معقوداً مدلّى من السقف وتحته طاولة. مضت الأيام وصدق حدس أبي. بذّرت أموالي وانفضّ أصدقائي من حولي وشعرتُ بالخيبة وجئتُ إلى الإسطبل وأدخلتُ رأسي في أنشوطة المشنقة وما كنتُ أركن الطاولة حتى هبط السقف بي وانهمرتْ عليّ النقود الذهبية مثل المطر ونظرتُ وأنا واقعٌ على الأرض فرأيتُ ورقةً مكتوب عليها: اتّعظ بما جرى وابدأ حياتك من جديد بهذه النقود. ثُبتُ إلى رشدي وجددتُ وكددتُ وعوّضتُ ثروة الأسرة وصرتُ آتي إلى هذه الحانة التي كنتُ أسهر فيها مع من كنتُ أظن أنهم أصدقاء وصرتُ أطلب الشراب وأصبّه في أقداح متعدّدة بعدد رفاق السوء وأشربها وأكسرها ليقيني بأن لا أحد يستحق أن أجالسه وأُنادمه. شكر الوزير الرجل وذهب إلى الثالث وكشف له عن شخصه وقال له: هل لك أن تسرد لي ما جرى معك حتى وصلتَ إلى هذا الحال؟ فأجاب الرجل: حضر عليّ جنّي وقال لي: لقد أحببتُك وأريد أن أعطيك هديّة. سأكحّل عينك بهذا الكحل السحري فيصير كل ما تراه فيها ذهباً. قلتُ له: كحّل لي العينين الإثنتين. أجاب: عينٌ واحدة تكفيك. أمام إلحاحي كحّل لي عينيّ الإثنتين. ألا أستحق أن أُضرب بالأحذية على رأسي؟ ما عدتُ أقدر أن آكل أو أشرب إلا وأنا مغمض العينين. ما عدتُ أقدر أن أنظر إلى امرأتي أو أولادي. عميتُ حالي بحالي. خذ حذاءك وارقعني على قمّة يافوخي لعلّي أفقد الذاكرة فأنسى أني السبب في كل الذي جرى لي.
سيّد سين: في هذه التوليفة الثلاثية براعة فنيّة. أظن أن عندي هذه القصص متفرّقة.
شين خانم: يعني تريد أن تطالعني بلا منيّة. يا سيدي نكاية فيك سأظل كلما سمعتُ حكاية، سآتي وأحكيها لك وطق موت يا حبّ التوت. فأنا مثل الكلب الوفي أتعرف قصّته؟ فلاح عاد من حقله إلى بيته ونسي معوله في الأرض حيث كان يعمل وحدث أن أثلجت دون انقطاع في تلك الليلة وعند الصباح استفقد كلبه فما وجده فذهب إلى الحقل فرأى الكلب نائماً فوق المعول خشية أن يغطّيه الثلج فلا يجده صاحبه. أنا هكذا! على كل حسناً! تريد بكلامك هذا أن تقول لي: انصرفي. حسناً سأنصرف ولكني سأبقى مثل الذئب لا يختفي ذيله حتى تظهر أذناه. باي هواي.
الفصل الأول
المشهد السادس

تخرج شين خانم وتدخل ست غين وست جيم.
ست جيم: هذه إنسانة أم حيوانة؟ قبرتْ ابنتها وكأنها قبرتْ قطّة. يا لها من عديمة الإحساس!
ست غين: القصة ليستْ قصة إحساس، القصة قصة معرفة بالدنيا وخبرة بالناس. أنتِ دائماً ضدّ المتفوّقين. ضدّ كلّ من يرى ما لا ترين ويعمل ما لا تعملين.
ست جيم: أهكذا أنا؟ عظيم! طاسة ورنّتْ. سأسلك هذا السلوك وسأبدأ بمضايدة من لا يوافقني. على كلٍّ ذكّرتْني قصتها قصةً كان يحكيها جدّي.
ست غين: هذه أول فائدة لشين خانم التي لا أعرف لماذا تقعد على قلبك.
ست جيم: على كلٍّ أنت دائماً ضدّي وهذا أمر مفروغ منّه ولا يعوّل عليه. قال أب لابنه: يا ولدي، إذا أردتَ أن تقامر فلا تقامر إلاّ مع زعيم المقامرين وإذا أردتَ أن تشرب الخمر فلا تذهب إلى الحانة إلاّ بعد منتصف الليل وإذا أردتَ أن تعاشر بنت هوى فلا تذهب إلى شارع الهوى إلاّ ساعة الفجر. مضتْ الأيام وفكّر الولد بأن يقامر فتذكّر كلام أبيه وذهب وسأل عن زعيم المقامرين فدلّوه على رجل، ما إن رآه حتى رثى لحاله. رجلٌ كهلٌ، زريّ الهيئة، أشعث الشعر، غائر العينين، ذو لحية غير مهذّبة ولا مشذّبة، عليه أسمال بالية ومرقّعة وينتعل حذاءً مفتّقاً ومثقوباً وسائفاً فسأله: أنت زعيم المقامرين؟ فأجاب: نعم! فسأله: وهل لك امرأة وأولاد؟ فأجاب: كان لي وبعتهم. فسأله: وأين تسكن؟ فأجاب: في الحارات. فمدّ الولد يده إلى جيبه وأخرج نقوداً وقدّمها لزعيم المقامرين وقال: اقبل هذه منّي فأنت تستحق الشفقة وتجوز عليك الصدقة. انتفض الزعيم وقال: لا! لا! أنا آكل خبزي بعرق لعبي. ضحك الشاب وودّعه ويمّم شطر الحانة وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. كلّما اقترب من الحانة، كانت تتوالى أمام ناظريه مشاهد السكارى: هذا يتقيّأ وذاك تتقاذفه الجدران وذلك مطروح على ناصية الطريق وما كاد يدخل الحانة حتى انتابه الغثيان من روائح أنفاس المخمورين وأصابه الرعب من نظرات عيونهم الحمراء، فخرج لا يلوي على شيء وتوجّه صوب المحل العمومي وكان الوقت قد قارب الفجر. وصل فهاله ما رأى من أوساخ تفرش الأزقّة المفضية إلى بيوت الهوى وأخافه منظر هذه البيوت وهي خاوية إلاّ من بعض العاهرات العجائز المتصابيات اللواتي يقزّزن النفس. قال له أحد الحرّاس: الماسكات حالن تعبوا وناموا وما بقي غير الفارطات. أصابه قول الحارس بالدوار فتماسك وضبط معدته التي انقلبتْ وخرج ومنذئذٍ قرّر أن لا يُقامر ولا يُعاقر الخمرة ولا يُعاشر بنات الهوى.
ست غين: قصتك ذكّرتْني بقصّة بنت شين. أحبّت شاباً مقامراً ماجناً ولا أعرف صلة القمار بالمجون ولماذا يجتمعان دائماً معاً. ضايدتْ كل أهلها وأصدقائها وتزوّجته مؤكّدةً أنها ستغيّره. لا غيّرته ولا غيّرها. زاد في فسقه وفحشه إلى درجة أن نفسه راودته لاغتصاب ابنتيه الصبيّتين وحاول إقناع امرأته بالفكرة مصرّاً على أن إبنتيه ثمرتان من شجرة زرعها هو وأنه أحقّ من أي أحد سواه في قطفهما. هنا ثارتْ امرأته وفارتْ وأخذتْ ابنتيها وعادتْ إلى بيت أهلها هرباً من رجلها المجنون الملعون من الرحمان ومن الإنسان.
ست جيم: الدنيا عُملة لها وجهان. وأنا صغيرة، جرى مع ابنة جيراننا ما جرى مع بنت شين. تزوجت مقامراً رغماً عن الكل وغيّرته. صارت كل ليلة تنتظر عودته من حفلة قماره وتفتح له طاولة قمار في البيت وتلاعبه حتّى ينام وهو قاعد يلعب. بعد أن يصحو صارت تعاود نصب طاولة القمار وتلاعبه وشيئاً فشيئاً أقنعته بأن يدعو أشكاله من المقامرين إلى البيت ليشاركوهما اللعب. يوماً بعد يوم اكتشف الرجل عبثيّة حياته وتغيّر وترك القمار وعمل وجدّ وصار رجلاً معروفاً بفضيلته وبإنسانيته ومرموقاً في المجتمع. انظري دائماً إلى وجهي العملة ولا تأخذي بطرف دون طرف. خذي الطرفين واسمعي الجرسين. دقّ جرس الغداء تفضلوا.
ست غين: أين ذاك الأب الذي جاء ذكره في القصّة الأولى من هذا الأب الذي تباخل على بيته وامرأته وأولاده وبعد أن مات فتلوا البيت كلّه وبحثوا وبحبشوا وما وجدوا أثراً لأموال الأب غير المأسوف عليه. حلّ الخريف وطلبوا معزّل مدافئ ليتفقّد مدافئ البيت. لمح المعزّل كدسات من الأوراق النقديّة والذهب والحلي والمجوهرات في مجرى المدخنة فقال: الأوساخ هنا متراكمة وأرجو إعطائي كيساً متيناً. فأعطوه فربط الكيس على فم المجرى وأنزل كلّ ما فيه وأخذه ومضى ومنذئذٍ لم يعثر أحد له على أثر. ويقال أنّه أتمّ تعزيل المدافئ ثمّ حمّلهم منيّة أنه لا يريد أجراً لأنّهم أناس طيّبون وأخذ الكيس الذي فيه كنز البخيل واختفى.
ست جيم: قصص البخلاء أكثر من قصص الصيّادين وحكايات الحيّات ولكن أكثر قصّة أثّرتْ فيَّ هي قصة ذلك الأب الذي كان يحرم امرأته وأولاده ويروح يبذّر أمواله على الراقصات والعاهرات ويطعم كلابهنَّ اللحم والشحم حتى أفلس وانفلج وكان أولاده قد نشؤوا نشأة صالحة بفضل أمهم الصابرة ورعوا أباهم رغم فصوله الناقصة حتى توفّى.
سيد سين: أظن أنَّ هناك جرساً قد دقّ.
ست غين: لم أسمع شيئاً.
ست جيم: ما بكِ لا تلقطينها على الطاير؟ يقصد جرس الطعام. طبعاً قد دقّ. قوموا قبل أن يفوت الوقت على الطبخة وتنتزع.
الفصل الثاني
المشهد الأول
المكان: غرفة في بيت من بيوتات العزيزية.
الزمان: عصر اليوم نفسه.
سيدات في ثياب الحِداد يتحدثنَ. تدخل ست ميم.
ست ميم: كيفك ست طه؟ العمر لكم! كلّنا على هذا الطريق ماشيين ولا أحد يعرف الدور على مين. هه! مرحبا ست كاف. كم أنتِ شلهوبة! خرجتُ قبلك ووصلتِ قبلي؟ سمعتم؟ قتلوا بكجي العزيزية. عند الصباح وجدوه غارقاً في دمه أمام باب بيته. ناس يقولون قتلوه برصاصة وناس يقولون ذبحوه بسكين.
ست طه: عرفته.كان يرافق العاطلات من بيت إلى بيت ويأخذ منهن أتاوة وكان يعمل في تهريب الممنوعات.
ست ميم: أهم شيء أنه كان صاحب ابنة أخته. كان أعزب وصاحَب في حياته بنات ونسوان أشكال وألوان وأخيراً رسا على ابنة أخته واشترى لها بيتاً في العزيزية. يقولون إن حبه لها عذري وإنه فقط يذهب ليأكل ويشرب ولكنه لا يقربها أبداً فهي متزوجة ولها أولاد وزوجها معها ولكن هناك واحدة كانت بيت سرّه وهذه تعرف كل شيء عنه وتؤكّد أنه كان يعاشر ابنة أخته وينام معها.
ست طه: الناس يحكون شندي بندي، شَروي غَروي على قولة الشوام. حكي الناس يخلط الطالع بالنازل بحيث تضيع الحقيقة والمشكلة أن كل واحد يؤكّد لك، أنه يقول الحقيقة. الحقيقة حقائق وكل ما يقوله الناس له أصل ومجموع هذه الأصول تعطينا في النهاية جوهر الموضوع وما هو جوهر هذا الموضوع وكلّ موضوع؟ العالم فيه خير وفيه شر والناس بعضهم مع الخير يرون كلّ شيء خيراً وبعضهم مع الشر يرون كلّ شيء شراً. ناهيكِ عن أن هناك ناس يعملون الخير شراً والشر خيراً وهؤلاء هم الذين يخربطون أفكارنا ويشوّشون عقولنا ويبلبلون أحوالنا. أنت مع الخير؟ ابقي مع الخير! أنت مع الشر؟ ابقي مع الشر! أما أن تتلوّني وتتقلّبي وتقولي: لا أعرف فهذا غلط! لك عقل فحكّمي عقلك وإلاّ ما قالوا: مجنون يحكي وعاقل يسمع. كوني فَريزة. افرزي ما حدث فعلاً عن كلّ ما أضافوه إلى ما حدث بالفعل والذي ما شافوه بالعقل عرفوه. زوجة سين اكتشفت أن لزوجها عشيقات بالجملة. معه ومن معه ماذا يمنعه؟ واجهته بالحقيقة فما نكر وقال لها: أنا حرّ. قالت له: وأنا حرّة. ابتسم وقال لها: نعم أنتِ حرّة وأنا حلالك أقول افعلي ما بدا لكِ. ركّبت له قروناً بلا عدد. المرأة مدد والرجل عدد. المرأة نبع والرجل جمع. الرجل نقطة والمرأة بحر والمرأة بحر والرجل شحر. ماذا قال الناس؟ قالوا إنه يشغِّل امرأته وأن ثروته آتية من بين سيقان زوجته. الرجل معروف غني أباً عن جدّ ولكن الناس، لا تبحث عن الحقائق. الناس تعشق الخيال وكلّ واحد يشطح بخياله على كيفه. هذه هي الحياة: واقع مغطّى بأكداس من خيالات والعاقل يزيح كلّ هذه الكدسات ليصل إلى الواقع، إلى النبع. إذا لم نرجع إلى النبع فلن نعرف الحقيقة. زوجة غين اكتشفتْ أن زوجها يرتاد الكباريهات ويعاشر الأرتيستات ويلعب القمار فكتمتْ كل هذا في نفسها وما باحتْ به لا لأنسي ولا لجنّي وصارتْ تستقبله آخر الليل وهو عائد من سهراته الحمراء، صارتْ تستقبله كل مرة بثوب إغراء شكل وتعمل له أجواء مغرية وتلاعبه القمار. صارتْ أرتيست أكثر من الأرتيستات وفتحتْ بيتها كباريه أروع من أروع الكباريهات وتعلّمت كل فنون القمار ولكن كلّ هذا لزوجها فقط. صار زوجها يركض إلى البيت مثل الباحث عن شيء ضائع وترك كلّ تلك البهدلات وعبد امرأته وأولاده وبيته. ماذا قال الناس؟ قالوا: من كثرة ما عاشر من بنات الهوى، انحل نصفه السفلي وما عاد خرج نسوان. الناس دائماً تنط وتقمز إلى الطرف المقابل. تراك مليحاً فتستقتل لتثبت أنك عاطل وتراك عاطلاً فتستميت لتعملك ملاكاً. نعم! نعم! هناك ناس يزيدون عطل العاطل ويَطولون ويقصرون ليثبتوا أنه أعطل مما تظن وهناك ناس يزيدون ملاحة المليح ويشوبرون ويهوبرون ليؤكّدوا أنه أملح مما تعتقد. المهم لا أحد يقول الواقع وكلّ واحد يضيف أو ينقص على كيفه. الدنيا واحدة والناس عديدون والقصص واحدة والرواة عديدون وكلّ حكواتي وله توابله. أمس التقيت بابن راء. خمس ساعات وهو يحكي دون انقطاع. حكايته تصير اثني عشر مسلسلاً، مسلسل لكلّ شهر على مدار السنة. دون تطويل سيرة عليكم، حياته مآسي بمآسي ولكن المهم أنه رغم مرضه النفسي ورفضه العلاج، توصّل إلى شفاء نفسه بنفسه. أقول شفاء بالمعنى المجازي يعني مايزال يشكو الفصام ولكنه فصام إيجابي أكثر من سلبي. تعرفون قصته منذ وفاة أبيه وزواج أمه وكيف رماه زوج الأم هو وأخوه وأخته في الميتم وتعرفون المياتم ومشاكلها. قال: جهنم! أنا جهنم! حيثما ذهبتُ، طلع لي شياطين. أغلقوا الميتم وخرج الثلاثة من تحت الوكف إلى تحت المزراب. قال: زوج أمي إبليس في قدّيس. رحمة أن زوج الأم مات وكم من رحمة انقلبتْ إلى ظلم! قال: ما قدرتْ أمي على تكميل تدريسي ورحتُ أتنقّل من صنعة إلى صنعة وكل معلمي الصنعات كانوا أبالسة، حاولوا التحرّش بي فطلعتُ بلا صنعة. الواقع كما قلت لكم: جوهرة مخبأة تحت أكوام زبالة. لا ندري أو ربما أحد يدري ولا يبوح بالسر. لا ندري كيف حادتْ أخته عن طريق الصواب. صارت فنّانة. أنا لا أسمّيه حيدان عن طريق الصواب فالفن ليس طريقاً خاطئاً. الفن رسالة، عظمة إنسانية. الفنّان لؤلؤة، جوهرة ولكن ياما لآلئ في أصابع وسخة وياما جواهر على رؤوس واطئة. قيمة الفنّانة بمن يحرّكها. الفن يجب أن يحرِّك ولكن للأسف! الدنيا مقلوبة من يوم يومها. قال –وهو أيضاً فنان-: أريد أن أرسم لوحة عنوانها إلى أين؟ إلى أين يذهب العالم والفنّانون نوعان: فنّان قذر وفنّان تلعب به أيدٍ قذرة. الأم لها الدور الأساسي في حياة أولادها. هذا هو المفروض نظرياً ولكن عملياً، صار كثيرون لهم أدوار أساسية في حياة الإنسان. قال: الذنب ذنب أمي أولاً ولكن كثيرين أذنبوا بحقّنا أيضاً فيما بعد. اليتيم مكسور الظهر وكلما التقى بأحد، اعتقد أنه سنده. كل من تعرّف على هذه الفنانة المسكينة، أكلها لحماً ورماها عظماً والغريب أنها رغم تجاربها العديدة، ظلّت ساذجة، نقية السريرة، لا تفكّر بالعاطل أبداً. قال الفنان: أختي قدر ما تعذّبت ما عادت تحسّ بالعذاب وأنا قدر ما خفت ما عدّت أحسّ بالخوف. إن ما جرى مع الأخت، جرى مع الأخ سواء بسواء، كل من التقى به، عدا رفاقه المخلصين، استغلّه أبشع استغلال ومع ذلك ما فقد طيبة قلبه وإصراره على الاستمرار بحثاً عن أناس صادقين وأنقياء قلوب، أناس بشر وليسوا حواوين. قال الفنان: عرفت أكثر من مئة امرأة. كلهن كن شيئاً وصرن شيئاً آخر. أنا أقدّس المرأة ولكني ما صادفت في حياتي غير نساء شيطانات وإبليسات. أغلبية النساء يبحثن عن الطيبين ليتخابثن معهم… وصل المطران ليأخذ بالخاطر سنتابع فيما بعد.

الفصل الثاني
المشهد الثاني

يدخل المطران ونائبه يتقدّمهما القوّاس وبعد التأهيل والتسهيل وعبارات التعزية يجلسون وتدور المجاملات:
ست فاء: سيدنا ألن تجدوا حلاً للهجرة؟
سيدنا: الهجرة ليست بيدنا بل بيدكم. نحن لا نقدر أن نمنع الناس من الهجرة ولا نقدر أن نجبرهم على البقاء في البلد. إرادة اللّه تفعل ما تشاء وتريد.
ست باء: وقضية المساعدات سيدنا ألن تلحلحوها؟ المبالغ قليلة والشروط صعبة.
سيدنا: هذه أمور تخصّ لجنة الوقف وبمقدوركم أن تعترضوا أو أن تقدّموا اقتراحات جديدة. كلّ شيء بإرادة اللّه ونحن لسنا سوى عبيده وخدّامه.
ست واو: سيدنا خوارنة الرعية، يزورون بيوت الأغنياء ولا يمرّون على بيوت الفقراء.
سيدنا: اشتكوا! ارفعوا صوتكم عالياً وطالبوا بالعدالة في الزيارات! إنّ إرادة اللّه لا تغفل عن شيء… فليكن ذكره مؤبّداً.

الفصل الثاني
المشهد الثالث
يخرج المطران ونائبه وقوّاسه محفوفين بمجاملات التوديع.
ست صاد: نفس الحكي يكرّرونه مرة بعد مرة ودائماً تبدأ الأمور عندهم وتنتهي بإرادة اللّه يعني أليس البشر خلقة اللّه أيضاً؟ أليسوا على صورته ومثاله؟ أليست لهم إرادة؟ هاتي كمّلي لنا القصة.
ست طه: أنا أعتبر الفنانة وأخاها الفنان قديسين. الناس أنجاس وأنا منهم فلطالما حكمنا أحكاماً ظالمة على غيرنا بنظرات خارجية غير مجرّدة. القديسون ليسوا فقط من يعملون عجائب. كل من يتحمّل ظلم الحياة قديس. قال الفنان: كل رجل عاشرته أختي، انقلبت حياته مئة وثمانين درجة، تحوّل من ظالم إلى عادل ومن طالح إلى صالح ولكنها كانت وماتزال الوحيدة التي تدفع الثمن. هناك راهبات في الكباريهات يقمن بإصلاح عاطلين أكثر من راهبات الأديرة. ماتت الأم والحال على ما هو. المهم حياة الفنانة نقلتها من الغباء والسذاجة إلى الذكاء ونوع من الدهاء. الأمر أشبه بمعجزة. المعجزة معجزة لأننا لا نقدر أن نفسّرها وهنا لا نقدر أن نفسّر كيف تحوّل الفنان عن النزوع الديني المرضي الذي أوصله إلى الفصام، كيف تحوّل فجأة إلى مؤمن بالعلم؟ صار يدرس الكتب العلمية ويلخّصها ويرسم رسوماً فضائية أشبه بالتي ترسلها المركبات التي تجوب السماوات.كيف بعد أن كان يرى أحلاماً يعاتب فيها اللّه ويسأله: لماذا أنت واحد وأنزلت أدياناً ثلاثة؟ ويلوم في كوابيسه أنبياء اللّه ويسألهم: لماذا لا تعاودون الظهور سوية وتوحّدون أتباعكم بحيث لا يتقاتلون؟ كيف هذا الفنان الذي يعتبره أغلب الناس مجنوناً ويخافون منه ويتجنّبونه ويغيّرون طريقهم إذا صادفوه في الشارع، كيف يصل إلى أن يقول: العلم هو الحل. لا خلاص إلاّ بالعلم. العلم سيعلّم الناس المحبة وسيوصلهم إلى السلام…
ست زين: فلتتهنّي بفنانيك ومجانينك. أنت أيضاً دراستك العلمية غيّرت عقلك. كان يجب أن تسمعي ما تقوله أمهما. بأذني هذه التي سيأكلها الدود، سمعتها تقول: ابنتي فنانة، هه! حنونة ومجنونة. تبيع نفسها لتسعد غيرها.ابنتي تفل عصير وطحل فنجان والآخر: ابني فنان، هه! جحش فلتان. كلما قلت له اشتغل! قال لي أنا فنان. مرحبا فنان، الفنان لا يأكل من بين سيقان أخته. دعينا من فناني آخر زمان، صايعين ضايعين…
ست طه: الناس العاديون ينظرون إلى تفاصيل مرحلة ولا يتابعون النظر ليصلوا إلى النهاية. المهم النتيجة. صدق ذلك الذي قال: الشعوب الجاهلة تثرثر لمجرّد الثرثرة ولا تريد أن تصل إلى أي استنتاج.
ست زين: خيّتو! نحن جاهلات وجئنا لنتسلّى لا لنأخذ درساً في الفلسفة. الناس في العزاء تثرثر، تبربر، تخلط في الأحاديث… هذه عاداتنا. نحن نحب الحكي للحكي ومن تريد حكياً من نوع آخر فلتقعد مع غيرنا.
ست طه: ضربة من فوق ولا قعدة مع قليلي الذوق. خاطركم…
الفصل الثاني
المشهد الرابع
تخرج ست طه محفوفة بهمسات الرضى والزعل.
ست صاد: لماذا فقأتِ هذه البيضة الفاسدة في وجهها؟ لا أعرف لماذا تعتبرين اللطافة آفة؟ كأنك طلعتِ من بين الوحوش أو كأنك تربّيتِ مع حيوانات مفترسة… ولماذا يزعجك كلّ حديث، لستِ أنتِ فيه صاحبة الكلمة؟ هذه الشراسة تجعل الباقيات يعتقدن أنك لستِ طبيعية. ترفضين الرجال وتقاتلين النساء، كأنك تريدين أن تنفّسي عن شهواتك الغرامية غير الواضحة. بحاجة إلى رجل، اقبلي رجلاً! بحاجة إلى امرأة، دبّري رأسك! ولكن هذا الكبت سيجعلك أعنف وسيتجنبونك مثل عنزة جربانة. أنا أزعل على هذه الفنانة وأخيها. في قصّتهما أقصى درجات الحقارة البشرية. ما لكِ قلب فليكن لك عقل! ما لكِ عقل فليكن لكِ قلب! الأفضل أن يكون لكِ عقل وقلب. يا أختي! فكّري، أحسّي! قلبي عليه خصوصاً عندما استغلّتْه تلك المرأة… رأى فيها أمه المظلومة وأخته المقهورة وكلّ زوجة تعيسة ففتح لها قلبه وعقله وساعدها ورسم لها ثمانين لوحة، صارتْ بموجبها عضوة في نقابة الفنانين وفي الاتحاد النسائي وفي… وفي… وتنكّرتْ له وانقلبتْ عليه وأرته كلّ قبيح وما عمل معها إلاّ كلّ مليح. أهذا لا يجعلك تفكّرين بأن بعض الناس تستحق الدهس بالأقدام؟ ألا يجعلك تشعرين بأنَّ بعض الناس الذين نعايشهم أعظم من أبطال الأفلام؟ امرأة ثانية متّهمة بقتل زوجها في فرنسا ومتّهمة بقتل زوجها الثاني في الخليج. امرأة بؤرة أمراض نفسية، علقتْ به فرعاها واعتنى بها وصار لها أكثر من طبيب نفساني فما كان منها إلاّ أن قلبتْ حياته جحيماً وقالت له: قتلتُ اثنين وستكون الثالث! ومع ذلك ظلّ حتى هدّأها وأعادها إلى وضع جنونها الطبيعي ومايزال يرعاها عن بعد وقلبه عليها. فتاة في الرابعة عشرة، يحاول أهلها شيئاً فشيئاً أن يبيعوا عذريتها لغني من الأغنياء وأن يستجرّوها إلى الدعارة فيما بعد. عمل المستحيل وبذل كلّ غالٍ ورخيص لينتشلها من جورة الفساد هذه وصار يبيع لوحاته ويدفع لأهلها راتباً أسبوعياً لعلهم يشبعون ويصرفون النظر عن المتاجرة بابنتهم ولكنه عجز عن سدّ أطماع هذين الوالدين المجرمين. كيف لا يتعب ومصاعب حياته من صعب إلى أصعب؟ وغيرها… وغيرها…كثيرات وكثيرون بلوه بأبشع البلوات. خصوصاً تلك الساذجة البريئة التي يشغّلها زوجها عاهرة ليعيش من ريع جسمها. لجأتْ إليه وهو فنان حسّاس فوعدها بأن يرسم ويبيع لوحاته ويعطيها ثمنها لتدفعه لزوجها على أنه مسحوب جسمها وتعيش عفيفة كما تريد… فإذا بها حيلة منها لتستحلبه وتستغل طيبته وتزيد دخلها علاوة ما تكسبه من عهرها قال لي مرة: أشرف من تعاملتُ معهنَّ كنَّ بنات الهوى. هؤلاء حطّي نطّي، ما من ورائهن لا تلاعب ولا غدر ولا خيانة. امرأة واحدة كانت مختلفة. حوّيسة رأفتْ به. بدأ الأمر شفقة عليه وتطوّر حتى صار حباً وعشقاً وهياماً. إنّه العطاء المتبادل الوحيد في حياته وكالعادة انتهى الأمر بمأساة. أصابها سرطان وتلعبجتْ وماتتْ خلال شهور. قلبي عليه وعلى أخته. مليح أن أخاهما دبّر رأسه وهرب إلى المهجر وما عاد أحد يسمع عنه شيئاً. إيه! كما كانت تقول ستّي: أين أضعك يا قلب وكلّ ما حولي غلب على غلب. كأننا، نحن البشر، ننكش بأظافرنا عن المآسي لننسى أو على الأقل لنتعزّى عن مآسينا. لست أستغرب أنهم قالوا الفنون جنون. لا أعرف إذا كنتم سمعتم بالفنان سين. هذا فلتة من فلتات العصر وخيلة من خيلات الدهر. كان معنا في الجامعة وفصل عقله في السنة الثالثة. فجأة صعد إلى المنبر، قبل أن يأتي الأستاذ وألقى علينا محاضرة بلغة فرنسية ناصعة، كأنّه نبي من الأنبياء أو عالم من العلماء، يتحدث عن مستقبل البشرية وعن حتمية غياب الإنسانية ومن يومها وهو سارح في الشوارع، حيناً يعمل مجّاناً في الأفران خدمة لأبناء آدم الغلابة من ظلم الحياة وحيناً معاوناً لبائع مازوت متجوّل خدمة لأبناء آدم الباردي الحسّ. عسى ولعل تسري فيهم حرارة النيران فيعود الواحد منهم ويرجع إنساناًً. طوراً ترونه يحمل ماء من بيته ليسقي أشجار الشوارع وهو ينذر الناس بيوم لن يبقى فيه شجر ولن ينزل فيه مطر وطوراً تصادفونه يحمل صناديق زبالة ويحفر ويدفنها في الأرض أملاً في أن تتحول إلى بترول يستفيد منه أبناء آدم في المستقبل البعيد. مرّة تلاقونه واقفاً على درج أحد البيوت التي على الشارع يخطب موجّهاً كلامه إلى رئيس الأمم المتّحدة: سيدي ر. أ. م. العالم يحكمه مجانين ومنظمتكم عصفورية ولو أنَّ العقلاء يحكمون أممك لكان الوضع أسوأ لأن عقلاء الغد أجنّ من مجانين اليوم والأمس. مرّة رأيتُه في أيار يحمل مناشف وهو يركض ويصيح: نزل المطر بعد الحصاد، انتزع الموسم وسوف تعفّن الحنطة وعليّ أن أسرع لأنشّفها. الحقوني بالمناشف إلى البيادر وإلاّ فستأكلون براز أبي، هذا إذا بقي يتبرّز. في يوم دعوتُه إلى مطعم وسألتُه: ماذا يشرب؟ فقال: لا أشرب ويسكي لأن كل شرّيبة الويسكي مجرمون ولا أشرب فودكا لأن كل شرّيبة الفودكا جلاّدون. أشرب النبيذ الفرنسي لأن الثورة الفرنسية وضعت العالم على الطريق الصحيح، طريق العقل. حين حضر النبيذ، سألني بدهشة: ومن قال لك أن تطلبي نبيذاً؟ أنا لا أشرب النبيذ لأنّه يذكّرني بالدم. لو أن هناك عَرَق رز (ساكي) لشربتُه لأني أحبّ الصين واليابان وأحب الهند ولا أعرف ماذا يشرب الهنود. أخاف أن يكونوا يشربون بول البقر أو دمع الجرذان لأنهم يعبدونهما. اطلبي لي عرقاً، مشروبنا الوطني، أنا سوري حتى نخاع العظم أو بالأصح حتى نقي العظام أو لا لا لا… أنا عالمي، وطني كوكب الأرض وقد أسكُن القمر أو المريخ في المستقبل ولكن لن أسكن زحل فبلا شيء أنا عقلي زاحل. لستُ مثل كلّ أبناء آدم. يا أبناء آدم لستم أبناء آدم. هناك أكثر من آدم. آدم أفريقيا غير آدم آسيا. كلّ قارة وكلّ جزيرة لها أوادم ولكنّ حوّاء واحدة. المرأة مرأة على الأرض وفي كلّ الكواكب. يقولون أنَّ أمه سببه وأنها مجنونة، عصابية، رُهابية. لها فصول جنونية أكثر من قصص الخيانات وحكايات الجان وأنها كانت تهدّده بأنها ستفلت الدجاج لينقر قفاه وخاصة دبره فأعجبتْه الفكرة وصار يسأل أمه يومياً: ومتى سينقر الدجاج قفاي؟ بعد وقت صار يشكشك قفاه بالدبابيس والإبر ويلتذّ بألم الوخز ومع الوقت انتقلت لذّته إلى الوراء. هكذا يقولون ولا تأخذوا منّي غير الكذب. في زيارة إلى بيته، رأيتُه قام ليغلي في ركوة قهوة وسخة فسألتُه: لماذا لا تغسلها؟ فأجابني: تقول أمي مادامت ركوة قهوة ولن نعمل فيها غير قهوة فلماذا نغسلها؟ ولفت انتباهي دفّات خشب منشورة على الشرفة فسألته: لماذا تنشرون هذا الدفّ؟ فأجابني: تقول أمي ما دام البصطرما يصير دفّاً فمن المعقول أن يصير الدفّ بصطرما! وحين جئت لأجلس، مدّ منشفة على المقعد الذي سأجلس عليه ثم جلب دبوساً وشكَله بطرف المنشفة فسألتُه: لماذا كلّ هذا؟ فأجابني: تقول أمي جلوسك على المقعد سيوسخه ولذلك نضع منشفة لنغسلها بدلاً من أن نغسل المقعد فقلت له: تفكير سليم ولكن ما سر هذا الدبّوس؟ فأجابني: تقول أمي حتى نعرف على أي طرف جلستِ فإذا جاء غيرك ليجلس مددنا المنشفة على الطرف الآخر فقلت له: ألن يوسّخ طرف المنشفة الذي جلستُ عليه المقعد حين ستمدّونه على قفاه؟ فقال: هذه لم تفكّر بها أمي!
ست زين: هيا بنا فأهل الميّت قد تعبوا! هلمّوا كلّ واحدة إلى بيتها!
ست ميم: أنا وست دال سنترافق فنحن على نفس الطريق.

الفصل الثالث
المكان: شوارع حلب من العزيزية إلى النيّال.
الزمان: مغرب اليوم نفسه.
سيدتان تتحدثان.
ست ميم: أسمعتِ بما جرى في حارة هاء؟ شاب وأخته نزلا من الضيعة وسكنا عند أم ياء ومع الوقت أحبّ الشاب فتاة ويوم عرسه وهو قادم إلى حلب. اصطدم الباص بشاحنة وقُتل في أرضه وبدأ الأهل والجيران يندبونه ويقولون: عزرائيل يا عزرائيل! كيف أخذتَ الشاب الأمير وتركتَ أخته أم صنان؟ الأخت كبر الموضوع على عقلها خصوصاً عندما قالت إحدى النادبات: أبو منجل يا حاصود، كيف تحصد الابن البار وتترك المصنّة جلاّبة العار؟ فدخلتْ إلى غرفة أبيها المتقاعد من الجيش وأخذتْ مسدسه وطاق طاق طاق… قتلتْ نفسها. كان العزاء بواحد فصار باثنين ويا عدرا على قلّة الحس! ما أحسّ أحد بمدى الغلط الذي غلطوه.
ست دال: لا تروحي لبعيد! ذكّرتِني بجيران بيت أخي. تعرفينهم بيت أبو سين، عنده صبي وبنت. فجأة مرض الصبي مرضاً غريباً ما قدر الأطباء على معرفته وأخذ الجميع يتحسّرون على مرض الصبي وسلامة البنت. الطالع والداخل يقول: أما عرف المرض أن يصيب المفزورة بدلاً من أخيها فرخ الملوك. حقيقة البنت مثل القط بسبعة أرواح. البنت من كثرة ما سمعت الناس يتحسّرون على أخيها ويتمنّون لها الضرر، صعدتْ إلى القبّة وبحثتْ عن دواء الفسفس وشربتْ القنينة بأكملها ونزلتْ والناس مايزالون على أقوالهم تلك في تفضيل أذية البنت على الصبي وبينما هم كذلك. بم… سلتت البنت عن الكرسي ووقعتْ من طولها على الأرض واستلقتْ جثة هامدة. لا أعرف متى سيتعلّم الناس أن يساووا بين الذكر والأنثى.
ست ميم: هذه قصص بسيطة. أنا صغيرة أذكر عيلة فيها سبع بنات وصبي واحد ومرض الصبي مرضاً لا شفاء منه. الناس صاروا يعيدون نفس الأسطوانة ولكن على نغم أقوى فهنا الصبي وحيد على سبع بلّوعات. بين قال ويقول، سمعتْ البنات المسكينات من شيخ خرفان أن الصبي يجب أن يفدى بسبع بنات فذهبن وانتحرن انتحاراً جماعياً. شربن روح القلى ومتن موتة الكلاب.
ست دال: كفانا حديثاً في هذا الموضوع فقد وجعني رأسي وعصّني قلبي. أسمعتِ قصة امرأة كاف؟ كانت تذهب وتتبضّع وتدفع للباعة من جسمها. هكذا يقولون. أنا سمعتُ ما رأيتُ بعيني. بعد سفر زوجها، عشقتْ شاباً من الجيران. شاب وسيم يقولون أخته تعشقه ويقولون أيضاً أن سيرته، مش ولابد، اشتلق أخو العشيق فهدّدها إما أن تنام معه وإما أن يفضحها فسايرتْه وصارتْ عشيقة الأخّين. هنا اشتلقتْ زوجة الأخ الأكبر، العشيق الثاني وأطلعتْ ابن حميها الأعزب، العشيق الأول وهدّدتْه إما أن ينام معها وإما أن تفضح الطابق بأكمله فسايرها وكانت هناك جارة متزوجة حديثاً، تموت عشقاً وهياماً بالأخ الأصغر الأعزب، اشتلقتْ على ما يجري وزيادة على ذلك شمشمتْ أخبار من هنا وهناك وعلمتْ أن معشوقها المعبود يعمل في تهريب الحشيش وأنه يخزّن البضاعة عند عشيقته فكمشتْه من يده التي تؤلمه وهدّدتْه بأنها ستخبر الشرطة بأمره إن لم يعاشرها فصارحها بأنه يقرف من عشيقته ولكنه يصاحبها على مضض لأنها تقبل أن تخفي المهرّبات عندها فعرضتْ عليه أن يترك عشيقته مقابل أن يصاحبها ويخفي الأغراض عندها وما هي إلاّ أيام حتى انفضح أمر عصابة المهرّبين وزُجّ دونجوان الحارة في السجن وطلّق الأخ الأكبر زوجته وبعد أيام عاد زوج الشرشوحة من سفره وشمّ رائحة فضائح فحاول أن يقتل زوجته وحين فشل اتّفق معها أن تكون لها حياتها وله حياته فتعمل ما تريد ويعمل ما يريد ومايزالا يعيشان على هذا الحال حتى الآن. يرجع حديثنا إلى الجارة الثانية فحين اعتُقل الأخ المهرّب، كان قد ترك عندها ثلاث عبوات من الحشيش وما عادتْ تعرف ماذا تعمل بها وخافتْ أن يأتي بعض أفراد العصابة ويطالب بها فأخذتْها ورمتها في حاوية زبالة وصادف في اليوم التالي أن اكتشف الزبّال في الحاوية رأساً مقطوعاً فجاءت الشرطة وفتّشتْ الحاوية فعثرتْ على عبوات الحشيش. الجارة توسوستْ في أن يفتضح أمرها فذهبتْ إلى شيخ وحكتْ له قصّتها طالبة المشورة فنصحها أن تدّعي بأن شيخاً وقوراً يلبس الأبيض قد ظهر لها في المنام وطلب منها أن تعتزل الدنيا وتقضي بقية حياتها في العبادة وهكذا أقنعتْ زوجها بأن يسافر معها إلى لبنان ويقال بأنهما يعملان الآن خادمين في أحد الأديرة ويقال أيضاً أن الكلاب البوليسية جاءتْ إلى بيت الجارة المتنسّكة ولكنها كانت قد سافرتْ. أحكي لك كل هذا لأقول لك إن الحياة خيطان عديدة تتشابك على الطَشّ وأن أحداث الحياة فوضى بفوضى ولذا ما كل شيء يؤخذ بالعقل. لماذا؟ لأن العقل عاجز عن أن يُحيط بكل هذه الخردعة. ليس عبثاً أن يقولوا: قلبي يحسّني وعقلي وجعني من هذا الموضوع. الإحساس صمّام أمان ينفّس ضغط الرأس فلا ينفجر، لذلك ضروري أن تأخذي الأمور على الهيلمية كما يقول الشوام. كبّي عن بالك واتبعي إحساسك. الدنيا هيك وهيك: مرة الفكر ينفع ومرة الحسّ ينفع والإنسان ميزان حاله. تفضّلي أنا وصلتُ.
ست ميم: لقد تأخّرتُ ويجب أن أحضّر العشاء للشباب. أراك غداً…
ست دال: حسناً تصبحين على خير.. ولكن لماذا لم ترافقك ست كاف وأنتم عيلة في بيت واحد؟
ست ميم: قد تكون أخذتْ على حاصلها لأني خرجتُ دون أن أخبرهم بأني ذاهبة إلى العزاء. أمور عادية تحدث كل يوم. وقتال الأخوات، حنّة في الديّات.
الفصل الرابع
المشهد الأول
المكان: بيت من بيوت النيّال.
الزمان: عِشاء اليوم نفسه.
يدقّ الباب. يفتح سيد سين وتدخل سيدة ميم.
سيّد سين: أهلاً بالست الوالدة! أولادك في بيتك ومفتاحك في جيبك. أنا سأتعشّى في غرفتي مع الفنان سين وسنتدبّر أمرنا فلا يهمّك.
ست ميم: الفنان سين؟ اليوم كنا في ذكره. إذا لزمكما شيء فأنا سهرانة.
سيّد سين: ها قد وصل. الباب يدق.

الفصل الرابع
المشهد الثاني
ست ميم تفتح باب البيت. يدخل الفنان سين.
ست ميم: تفضّل! أهلاً وسهلاً. تعرف الطريق. رفيقك ينتظرك في الغرفة فوق.

الفصل الخامس
المكان: غرفة في بيت من بيوت النيّال.
الزمان: عِشاء اليوم نفسه.
الشخصيات رجلان يتحدثان.
سيّد سين: بعد زمان. نحضّر لقمة صغيرة على كيفنا وتحكي لي قصة حياتك.
الفنان سين: حياتي؟ قلْ قصة مماتي. أن ميّت حيّ أو حيّ ميّت. اعربها في ذهنك كيفما شئت. عليّ الشراب وعليك الطعام.
سيّد سين: اتّفقنا. ما هذا المشروب؟
الفنان سين: أنا أخلط في الحديث. أكون في شيء أصير في شيء آخر. أنا رضعان حليب بقر والبشر إذا رضع حليب بقر فماذا سيكون غير ثور؟ يوم ولدتني أمي صابتها حمّى النفاس ففصل عقلها وقضت ثمانية شهور في العصفورية. نحن نعيش الآن في عصفورية كبيرة اسمها حلب. كل مدينة هي عصفورية ولكن كل مدينة جنونها شكل، كما أن كل عصفورية جنونها شكل. الكل يسرقون لوحاتي وأنا أعطيهم روائعي بمطلق خاطري. لماذا السرقة ما دام المالك يعطي بكرم؟ فنان شهير أو قل جحش فلتان شهير. سرق لوحتي المسيح المصلوب ووضع عليها توقيعه وباعها بمبلغ طائل. أنا أول من أعطى المسيح روحاً أنثوية. ربّتْني ابنة باء وفي عمر الرابعة أوقفوني قدّام امرأة وقالوا لي: هذه أمّك. كانت قد تعالجتْ في لبنان عند أخوالي. أمّي؟ ما كنت قد سمعتُ بهذه الكلمة ولا أعرف هذه الكلمة أصلاً. أنا رضعان حليب بقر ولذا لست من البشر. أنا حيوان أرقى من الإنسان. كل الأمهات اللواتي عرفتهن، أمهات خاصيات، يخصين أبناءهن الذكور ويضعن صبّة إسمنت في أعشاش بناتهن. البشر من يولد من الحجر. زوجتك أخذتْ أعداد هائلة من لوحاتي. أنا أعطف عليها. الدلال يسبّب الطيش والطيش يبعث على التضحية بالذات. لولا كنتَ مدلّلاً لما ضحّيتَ. أنا مدلّل وحياتي كلها تضحية. زوجتك عقلها في عينها وعينها جوعانة. زوجتك لم تتدلّل. إنها الصغرى في عائلة كبرى. كيف لا تصير ذكية وتستملك كل شيء؟ الإهمال عكس الدلال يولّد العبقرية ويمنع الطيش ويجعل المهمَل يرفض أن يكون ضحية ويصرّ على أن يكون بطلاً قادراً ولو فاجراً. قلتُ لأمي: أنا لا أعرفك فكيف أحبك؟ أجابتْني تعرف رحمي قبل أن تأتي إلى هذا العالم. ذبحَتْني بلا دم. صرتُ مريضاً بحب أمي وأمي مجنونة ومن يحب مجنونة مجنون وأنا مجنون. قلتُ لزوجتك: زوجك أعطاك كل شيء وأنت تعيشين من وعلى خيراته. كيف تخونينه؟ قالت: أنا لم أعرف رجلاً غير زوجي ومستحيل أن يقول زوجي أني خنتُه. أنا كنتُ زوجته ومازلتُ زوجته وسأبقى زوجته.
سيّد سين: أنا ذاهب لأحضّر بعض المازاوات.
الفصل السادس
المكان: مطبخ كبير وغرفة طعام معاً.
الزمان: عِشاء اليوم نفسه.
الشخصيات رجل وامرأة يتحدّثان. يدخل سيّد سين.
سيّد عين: قل لي يا ابني! ما السر أن الفنانين نوعان: فنان حقيقي ولكن عقله يخضّ وفنان مزيّف تاجر وفاجر؟ كنّا أنا وأمك نتحدث عن الفنان لام، كيف كان يحب المغنّية روحية ولا يقربها. لوحاته تسحر ومشهور عالمياً ومع ذلك فعقلاته على قدّه. الناس يقولون مجنون، لا يفرّقون بين مرض عقلاني ومرض نفساني.
ست ميم: ما تقوله لا ينطبق على الكل. خذ ابن خالتي ج. ج. إنه رسّام فنان يصطل العقل بروائع لوحاته. أتذكر لوحته التي رسمها لأستاذه إسماعيل؟ أتذكر لوحته عن ساحة في قرية حلبية وفي وسطها حمار مرسوم بأنبوب الألوان دون ريشة؟ أتذكر لوحة (مدينة لورد) التي قدّمها لنا في يوم زواجنا؟ ولوحاته في صالون أخي جيم ألا تجنّن؟
سيّد عين: لوحات منقولة عن بطاقة بريدية وتظنّين أن ابن خالتك، عقله كامل؟ كم مرة خطب وفكّ وأحب وترك؟ في لحظة، يريد الهجرة ولا يعرف إلى أين، مرّة إلى لبنان ومرّة إلى أميركا ومرّة إلى أوروبا… وفي لحظة، يريد الزواج والاستقرار. عقله غير راكز وما له ساعة تشبه ساعة وهذا يؤكّد أن الفنانين إن لم نقل مجانين فلنقل غير طبيعيين أو مشاريع مجانين. أختي مرّة رسمتْ لوحة طبيعة ونظرتْ فرأت السماء فارغة فاضية فرسمتْ طيراً فرأتْه قد صار مثل بصقة في السماء فرسمتْ طيراً آخر ليؤنسه فرأتهما مثل إشارة = في الحساب فرسمتْ طيراً ثالثاً وقالت: هذان حبيبان وهذا مغرم ثانٍ يتنافس على الطيرة وفجأة مسحتْ الطيور التي رسمتْها وقالت: الفن إن لم يكن جنوناً فهو يجنّن. فكرة تعطيك فكرة ثانية والثانية تأخذك إلى الثالثة فيمتلئ رأسك بأفكار تعجز أن تسيطر عليها فتحسّ كأن رأسك سينفجر ومنذئذٍ أغلقتْ كتاب مستقبلها الفني وظلّتْ لوحتها هذه يتيمة وأولاد عمّتك يا ولدي من زود فهمهم وتقديرهم للفن ولأمهم ولتراث العيلة، وضعوا اللوحة في السقيفة. الفن يلزمه أهله.
ست ميم: أتذكر يا أبا الميش الأمين الحمصي الذي كان في جمرك تدمر؟ أتذكر ابن حميه الفنان الذي سافر إلى أوروبا ليدرس الفن؟ هناك تزوج وأنجب ثم دخل في عقله أن زوجته تريد أن تقتله فحمل حاله وعاد إلى حمص ومايزال يخاف أن تقتله زوجته عن بعد ولذا فهو لا يفتح أنبوب ألوان لأنه يؤمن أن زوجته أوكلتْ أباها، وهو صاحب معامل كبيرة، أن يدسّ غازاً ساماً في أنابيب الألوان حتى تقتله إذا فكّر أن يرسم. إنه يأتي إلى المقهى ومعه فنجانه ويدخل إلى مطبخ المقهى ليعدّ قهوته بنفسه خوفاً من أن تكون زوجته قد أوعزتْ إلى القهوجي وأوحتْ له أن يقتله. أتذكر كيف أنهم فكّروا أن يعرضوه على الخوري فاء النمساوي… وكيف أنه كاد يجنّ بمجرّد سماع الفكرة لأنه فوراً أكّد أن زوجته أرسلتْ الخوري فاء اليسوعي ليقتله. الأمراض النفسية كثيرة في هذا العالم ولكن المرض النفسي حين يصيب فناناً، تصبح له خصوصية أكبر وأهمية أكثر.
سيّد عين: على ذكر الخوارنة. حدّثوني أن مطران اللاتين، جلب أخوين فنانين من طرطوس ليعرضا لوحاتهما في صالة مسرح النهضة، أيام كان هناك مسرح نهضة وأن أحد هذين الأخوين، قرأ في الإنجيل: إذا شككتْكَ عينك فاقلعها… فشككته عينه فقلعها! الجنون فنون والفنون جنون!
ست ميم: هذه صينية المازاوات جاهزة.
الفصل السابع
المشهد الأول
المكان: نفس غرفة الفصل الخامس.
الزمان: عِشاء اليوم نفسه.
الشخصيات: الفنان سين شارد يتأمل. يدخل سين حاملاً صينية كبيرة.
سيّد سين: أبشر! وصلتْ المازاوات. هل أنهيتَ الرسمة؟
الفنان سين: على وشك أن أوقّعها. من هذا الذي رسمك ببرنص الحمّام وأمامك في الهواء غليون يغلي وكأنه طنجرة مقادم ورؤوس؟ إنه فنان كبير. انظر! لقد جعل الدخّان المتصاعد من طنجرة الغليون، يشبهك تماماً وكأنك تدخّن نفسك وتتوالد من أدخنة غليونك الهمجي. أبي كان ينكر خيانة أمي مع أنه كان يخونها كل يوم مع امرأة شكل. أمي كانت ملكة جمال لبنان وكل ما كان يهمّها هو أن تجلب انتباه الشباب وأن تكون محط الأنظار. أبي كان يشاجرها يومياً لأنها لا تعرف أن تطبخ غير الصيّادية ولذلك يضطر إلى أن يدعو أم مروان وأم بسام وأم ضرغام… ليطبخن له الأكلات الحلبية. طبيعي أن ينكر الخائن خيانته. طبيعي أن تنكر زوجتك أنها خانتك وفي الواقع، الخائن يحسّ أنه لم يخن وإن أحسّ بأنه قد خان فإنه يحسّ أنّه قد خان مادياً، جسدياً، لا روحياً ولا معنوياً. الخائن يريد أن تنظر إلى نفسه لا إلى جسمه. أنا روحاني ومريض نفساني. كنت أريد أن أصير راهباً فجنّ جنون أبي وزاد جنونه يوم قلتُ له إني أريد أن أصير فناناً رساماً. كان يريد أن نصير جميعاً، أنا وإخوتي، أطبّاء وقال لي: الفنانون لوّاطون، خبّاصون لوّاصون، مركوبون ولو كانوا راكبين. حاول كثيرون أن يركبوني منذ طفولتي إلى أن صرتُ في الجامعة. ما شعرتُ أبداً بهذا الميل. كنت أحب الجنس اللطيف ولكن لم يمر عليّ في حياتي ولا واحدة من الجنس اللطيف، لطيفة. كنت أذهب إلى المحل العمومي وأدفع ومثلما أدخل أطلع. ما كان يطلع معي شيء. كانت أصغر واحدة منهن، عمرها خمسمئة سنة ومن كثرة ما كنّ يتبرّجن، كنت أظن أني في متحف شمع سايخ، ذائب وأنا سلاحي من غير شيء ذائب مثل ختيار شايب. تشلح وتتسطّح وتقول: يلاّ وراي شغل وأنا مثل بغل أدير حوافري وأقول: أين أنتَ يا باب؟ منظرها يعمي اللّه في عرشه. لو رضيتْ فتاة في المرحلة الثانوية أو الجامعية أن تقبّلني وأقبّلها وتلمسني وألمسها لتغيّرت كل حياتي.
الفصل السابع
المشهد الثاني
يدخل شاب عصري فجأةً.
سيّد جيم: مرحباً يا شباب. لقطتكم، تتسامرون وصديقكم لا تدعون. لن أطيل الزيارة. يلزمني لابتوبك وبعض السيديات فعندي حفلة.
سيّد سين: طبعاً نحن غير مدعوّين أو تدعونا على الفضلة.
سيّد جيم: أنتم الأساس وعلى العين والرأس ولكنكم جماعة فن وفكر ونحن جماعة رقص وفقش. وجودكم يهزّم البنات. أسمعتم آخر خبر؟ الرقّاصة ياء متزوجة وعندها بنت. عشقتْ الطبّال وحبلتْ منه وزوجها راضٍ وماتتْ وهي تلد. جلبتْ صبياً إلى هذا الوجود وفارقتْ الحياة. زوجها رفض تربية الولدين فأخذتْهما الخالة على عاتقها والخالة متزوجة ولكن زوجها محلول لا ينجب ولها عشيق يصرف عليها وقد جلب منها أولاداً لا أعرف كم عددهم. المهم، الخبر المهم أن هذا العشيق مات واتّضح أنه كان متزوجاً في السرّ من امرأة من غير دينه وأنه ترك لها كل أملاكه وأمواله والمشكلة الآن أن الزوج المحلول بات يرفض أن يربّي أولاد زوجته من عشيقها…
سيّد سن: والحل؟
سيّد جيم: ما وجدتْ حلاً سوى أن تمارس أقدم مهنة في التاريخ فإذا كان على بالكم فلا تحرموا حالكم. تقول أنها تمنح السعادة بأسعار متهاودة.
سيّد سين: لا أعرف من أين تجلب كل هذا العلك. أنا متأكّد بأنك كنت في بطن أمك بنتاً وفي آخر لحظة انقلبتَ صبياً فأنت أعلك من النساوين.
سيّد جيم: الفكر من الدبر والشِّعر من الشَّعر وما تسمّونه علكاً هو أساس المعرفة والعلم. هل في كل ما قرأتموه قصة أب عنده ستة أولاد ذكور. كبروا وصار أصغرهم بالغاً راشداً وما معه ما يكفي لتزويجهم فزوّج الكبير واتّفق معه ومع عروسه، أن تكون امرأة لكل أخوته واستطاب الشباب الشغلة فصاروا كلما توفّر معهم مبلغ زوّجوا أحدهم وأعلنوا عروسه مشاعاً للجميع. كتّابكم العظام يأخذون ما تسمّونه علك نسوان ويذوّقونه باختراعات سمّوها بلاغة وبيان ويقدّمونها لكم على أنها إبداع خيالهم وفكرهم وأنتم لصغر عقلكم تصدّقون وتتهافتون على الكتب وما كتبكم سوى علك مذوّق. من عَلَك روّق. خاطركم. هات المطلوب وتابعوا سهرتكم المملّة ولا تنسوا حروف العلّة: آ، ؤ، ئي!
الفنان سين: مثل هذا الذكي كان سبباً في طردي من الجامعة. في السنة الرابعة ونحن على وشك التخرّج قال لي: سنغيّر عميد كلّيتنا: الأدب الفرنسي. كان جنوني قد بدأ يزيد ولا أعرف كيف رضيتُ أن أصفّر بصافرة نحاسية وأمنع الطلاّب من دخول القاعات وأعلن الإضراب عن الدراسة إلى أن يغيّروا عميد الكلّية. أنا مجنون بمبادئ الحرية والديموقراطية وجاء هذا وغذّى جنوني واستجحشني وركبني. وضعني وجه قباحة وأنقذ نفسه وورّطني وأوصلني إلى العسكرية. أعظم مرحلة في حياتي قضيتها في خدمة العلم. أردتُ أن أتطوّع فما قبلوني. حاولتُ العودة إلى الجامعة لأتمّ دراستي ولكني فوجئتُ بأنهم اعتبروني اضرابياً وانقلابياً وطردوني من جامعة حلب طرداً نهائياً ونزولاً عند رغبة أبي، سافرتُ إلى جامعة ليون لأدرس الطب.
الفصل السابع
المشهد الثالث
تدخل ست ميم وتقول: ميم بنت الجيران كتبت موضوع إنشاء وتريد أن تصحّحه لها.
سيّد سين: الوقت متأخّر للتدريس ولكن فلتتفضّل.
تدخل بنت الجيران وتقول: كنت مشغولة. رفيقتي ستخطب وكنّا نتحدّث عن الخطيب لذلك تأخرتُ.
الفنان سين: هل أنتِ مع الزواج المبكّر؟ أنا فنان. في وجهك براءة شيطانية، نوع من الملعنة الطيّبة. أتسمحين أن أرسمك؟
بنت الجيران: على شرط أن تعطيني الرسمة أو أقول لك لا ترسمني. في عيلتنا اعتقاد أن كل من ينرسم يموت. جدي رسمه نعّوم البخّاش فمات بعد أيام وأبي رسمه زبون رسّام، جاء إلى المقهى حيث كان يعمل والدي فمات بعد أيام وأظنّ أني مازلت صبية على الموت.
الفنان سين: رسمي يطيل العمر وهناك ناس رسمتُهم، تجاوزوا المئة سنة ومايزالون ينطّون مثل السعادين. رسمي يمنح السعادة. على كلٍ لن أرسمك ولكن ما أجبتني على سؤالي.
بنت الجيران: نعم أنا مع الزواج المبكّر. في حلب البنت عبدة ما دامت عزباء. الزواج يحرّر البنت وكلما حصلنا على الحرية ونحن أصغر، كان أفضل.
الفنان سين: ولماذا لا تتزوجين؟
بنت الجيران: أسعى على الدوام للزواج ولكن الزيجة ليست بهذه السهولة. أنا ضد القسمة والنصيب ومع أن تبحث الفتاة عن نصفها الآخر. كنتُ أتمنى أن تكون هناك علامة مادّية تدل على النصف الآخر، كبسة القلب دليل نفساني لا يكفي. كبس قلبي على شباب كثيرين ولكن ما مشي الحال ولا واحد منهم طابَق نصفي الآخر.
الفنان سين: هل أنتِ مع العلاقات الجنسية قبل الزواج؟ آسف! نحن الفنانين جريئون ونحب الإحراج.
بنت الجيران: لا يوجد أجرأ من البنات. الفنانون مهما كانوا جريئين لا يطلعون نقطة في بحر جرأة البنت. أهالينا يسعون دائماً ليكبتونا ولكن البنات ضد الانكبات. أنا مع العلاقات الجنسية قبل الزواج وبعده طبعاً. أصرّح لك بهذا بحضور جاري وأستاذي لأني أعرف بأنه كشاعر وأنت كفنان تقدّران الصراحة ولستما استعراضيين تفتخران بفضح الآخرين. أنا مع الغرابة. أحبّ أن تحدث لي أمور غريبة، غير مألوفة. اسمع ما جرى اليوم: مات ابن حمي أخت رفيقتي بحادث سيارة وجلستْ الأخت في العزاء مستغربة كيف لم يحضر أحد من أسرتها لتعزية بيت حميها. كانت تبكي بكاءً يحسّسها أنها تبكي على أحد أغلى من ابن حميها المتوفي وفجأة دخلتْ جارتها وقالت لها: ابكي بكاءً مضاعفاً! المصيبة الحقيقية ليست هنا، المصيبة الكبرى في بيت أهلك. أخوك الشاب أصابتْه جلطة وعطاك عمرو. انظر هذه المصادفة الغريبة. رفيقتي جاء شاب من فنزويلا ليخطبها ومعه جار له رافقه ليدلّه على البيت فما أعجب الفنزويلي بالفتاة بل حصل إعجاب متبادل بين الفتاة والجار وهما في طريقهما إلى القفص الذهبي وهذا يذكّرني بحادثة مشابهة: شاب أخذ رفيقه إلى بانياس ليقلّب عروساً فما أعجبتْه وأعجبتْ رفيقه وتزوجها. هذه ليست صُدفاً. هذه أمور مقصودة. هناك مغانط بين الشباب والبنات. كل بنت لها مغناطيس تتطابق موجاته مع مغناطيس شاب. إن لكل شاب فتاة تنتظره ولكل فتاة شاب ينتظرها. المهم أن تشير البوصلة العاطفية إلى الاتّجاه الصحيح. أزعل كثيراً على جدتي. كانت مثلي تحب الغرابة ولكن أهلها زوّجوها غصباً عنها من شاب شرقي، تقليدي، أناني. تصوّر أنه دار العالم وحده دون أن يجعلها ترى أبواب حلب. ماتتْ قبل أوانها من القهر. زواج الجبر آخرته قبر. أمواج المغناطيس إن لم تتطابق كهربتْ حياة الزوجين.
سيّد سين: تقدّمكِ في الإنشاء واضح. انتبهي إلى الأخطاء الإملائية والنحوية.
بنت الجيران: سأفعل. فرصة سعيدة وليلة أسعد وأنتَ انتبه إلى حالك وإلى جيرانك.
الفنان سين: للفتاة الحلبية نكهة خاصة أو قل لكل فتاة نكهة ذاتية. هذا للوهلة الأولى ولكن فيما بعد تتشابه النكهات. هذا ما كان يزعج أمي. كانت تصرّ على أنّ لكل امرأة نكهتها. في حين أن أبي كان يؤمن بالنكهة الجماعية للروح الأنثوية. أنا مع النكهة الخاصة. في ليون كالعادة ما تعرّفتُ سوى على عاهرات. ما قبلتْني امرأة غيرهن. كان عندي ثلاث صاحبات: واحدة مختصّة بالمداعبات الخارجية وواحدة مختصّة بالجماع السريع والثالثة اغتصبوها وهي طفلة فتقوّستْ رجلاها عندما كبرتْ وهذه حبلتْ. أنا أؤكّد أنها حبلتْ مني ولكنها رفضتْ وأصرّتْ أن الولد ليس ولدي وحتى لا ألاحقها اختفتْ فجأة. رحتُ أدرس الطب ففشلتُ وتحوّلتُ إلى دراسة الأدب العربي. أبي جنّ جنونه ورفض أن يتابع تمويل دراستي فعملتُ في بار أحد المحلات العمومية في ليون. كنتُ أوزّع المشروبات مجّاناً على العاهرات فغضب مني صاحب البار وغرّمني بمبلغ كبير وطردني. عملتُ في كل الصنعات الوسخة لأعيش. ثلاث سنين وأنا من جهنم إلى جهنم. أقسى موقف عشتُه كان يوم رأيتُ ابني وأمه في مرسيليا. أسلمتْني للشرطة وادعتْ بأني مجنون وأريد أن أسرق ابنها.
الفصل السابع
المشهد الرابع
يدق جرس باب البيت.
سيد سين: هذا صفير أبو عين ابن جيراننا الذي يحضر آخر الليل ليسلّيني كما يقول. لحظة سأفتح وأعود.
يخرج السيد سين ويعود بصحبة شاب ملتحٍ.
سيّد سين: تفضّل! هذا هو الفنان سين وهذا جاري أبو عين.
أبو عين: الفنان غني عن التعريف.
سيّد سين: أبو عين متعدّد المواهب ولكنه لم يستقرّ حتى الآن على موهبة معيّنة. الآن يجرّب الشِّعر. تحبه ثلاث رفيقات في عمر واحد ومدرسة واحدة وصفّ واحد والثلاثة يردن أن يتزوّجنه ولا يمانعن في أن يكنّ ضرائر. كتب فيهنَّ قصيدة وصفهنَّ فيها بثلاث زهرات وأنهاها بأنه عصفور يهوى الطيور وليس دبّوراً يهوى الزهور. أنا أستصغر عقله كيف لا يرضى. كان في اعزاز خفير عند والدي متزوّج من أربع صديقات. كان يعيش عيشة العمرين. الجهل إذا كان في صالحكَ فلماذا لا تستغلّه؟
أبو عين: استغلال الجهلة ليس من مبادئي على الإطلاق وتعرف بأني علماني وبعيد كل البعد عن دوائر الخرافات.
سيّد سين: منذ أيام قدّم امتحاناً في مسرح الشعب ليصير ممثلاً. طلبوا منه أن يمثّل دور مخبول طيّر عصفوراً من قفص ويحاول أن يكمشه ليعيده حيث كان ثم طلبوا منه أن يمثّل دور نائم أفاق على صوت أحد يخبّط على باب بيته. طلبوا منه أن يأتي في اليوم الثاني ليأخذ النتيجة فحضر وألقى على اللجنة الفاحصة قصيدة بعنوان (اليوم لقائي مع فوتوريوس) وفوتوريوس كما تعرف إله المستقبل عند الرومان ولكن اللجنة رفضتْه.
أبو عين: المسابقة كانت سخطة وكانت معمولة خصيصاً لانتقاء وجوه أنثوية للمسرح ولذلك رفضوا كل الشباب.
سيّد سين: أبو عين يحاول حالياً أن يتعلّم العزف على القيثارة ويتدرّب على الغناء الأجنبي وفي نفس الوقت يقوم بمحاولات تنفيذ رسوم بقلم رصاص، يقول أنها دراسات للوحات سيرسمها بالزيت مستقبلاً. هات علومك يا أبا عين!
أبو عين: أولاً أشرب نخب الفنان سين بمناسبة أول لقاء لي معه وتقديمك لي ذكّرني بصديقنا الفنان ع. ك. م. الذي رسمك وأنت تلبس برنص الحمّام. منذ أن كان طالباً في كلية العمارة، أثبت بجدارة أنه من أعظم الفنانين المعاصرين الحديثين في سوريا. يرسم وينحت ويكتب الشعر والقصة والمذكّرات ويلحّن ويغنّي ولا أنسى نظريته عن الفن التلقائي وعن ضرورة أن يستلم الفنانون مقاليد الحكم في العالم. مؤسف أن حياته تشعّبتْ وأدخلتْه في تعاريج جعلتْه يتشتّتْ ويفقد تركيزه الفني. أنا فاشل لأني أتصنّع ولا أصنع، أتفنّن ولا أفنّ. عندي الرغبة وما عندي المقدرة.
سيّد سين: أنا مؤمن بأنك ستجد طريقك في الحياة وهذا التنقل من باب إلى باب سيوصلك إلى الباب المناسب. هات أخبارك!
أبو عين: كنت عند حاء وقد أرسل معي مجموعة قصائد كتبتْها صديقته بنت شين عن الليالي الحمراء التي قضياها ويريد رأيك فيها. إنها مولعة بالأدب الجنسي وتريد أن تتخصّص في إبداع روائع جنسية أدبية. صاحبنا زين ما يزال متعلّقاً بالقمار وهو يقامر في كل شيء وقد قرر أن يرتّب أموره ليسافر إلى الولايات المتحدة وإلى لاس فيغاس بالذات لإيمانه بأنه عبقري في القمار ولا يوجد أفضل من أمريكا لتتفتّح عبقريته القمارية. سين، كما تعرف، تعشقه أختان في وقت واحد وأصغرهما أكبر منه بخمس سنوات وهو يعاشرهما مثل زوجتين وهما راضيتان تمام الرضى وتتهافتان على إسعاده وتأمين مطالبه، حتى إنهما تعطيانه مصروفه الشخصي وكل واحدة منهما تتمنّى أن تنجب منه طفلاً. إنهما لا تطالبانه بأي شيء وتقولان أنهما مقطوعتان من شجرة ولا أهل لهما حتى يحاسبوهما. عين ولام الصديقان الحبيبان ما يزالان يتلاوطان ولا يخفيان علاقتهما التي يرفضان أن يقولا أنها شاذّة. العلاقات من هذا القبيل تزداد ولكن بالخفية. ابن ياء وعمره سبع سنين بدأ يرى في أحلامه جوامع تتفكك أحجارها وتطمره ويرى في يقظته أبالسة تنبثق من الجامع الذي أمام بيته وتهجم عليه وبيدها أسياخ لتضمّه وتشويه. أخذوه إلى الشيخ فكواه بسيخ محمّى ليخرج منه الشيطان الساكن فيه وحين لم يتحسّن نصحوهم أن يأخذوه إلى شيخ في دير الزور ففلتَ عليه هذا الشيخ كلباً في العتمة ليخرج بترعيبه الشيطان الساكن وحين لم يتحسّن نصحوهم بأن يبحثوا عن شيخ مغربي أو يهودي لأن شيطانه أقوى من قدرة الشيوخ هنا وهنا جاء عمه من لندن في إجازة وأخذه إلى طبيب نفساني فاتضح أن جده لأمه يلوط به وخوفاً من الفضيحة فضّلوا السكوت ولفلفة الموضوع وأرسلوا الجد ليعيش مع ابنه بدل ابنته والخوف الآن على أبناء الابن ويدرسون حالياً فكرة وضع الجد في دار العجزة وإرسال الصبي مع عمه للعلاج في لندن. أتذكر ابنة خاء التي تتلصص من النافذة وتراقب كل ذاهب وآيب. انتحرتْ. رمتْ بنفسها من الطابق الخامس حيث يعيشون، بعد أن افتضح أمرها بأنها على علاقة مع سمّان الحارة وأنها حبلى منه وأبوها أقام عرساً بدلاً من جنازة، احتفالاً بخلاصه منها ورفض أن يرفع دعوى ضد السمّان لأنه اعتبره بريئاً واعتبر ابنته مجرمة وأنها هي التي أغوتْه ولولا غوايتها لما حبّلها. أم حاء تؤكد أن لها ضرة في الرقة حيث يبيتُ زوجها ثلاثة أيام في الأسبوع وبناء على إيمانها هذا، قررتْ أن تتّخذ عشيقاً والآن يتهمونها بعشق ابن أبو زين وأبو زين هذا طقّ امرأته بضرّة لأنها بدأتْ تتكبّر عليه فحزنتْ ابنتها البكر عليها وشربتْ ماء نار، أسعفوها ويقولون أنها ستبقى خرساء مدى العمر لأنهم لم يتمكنوا من إنقاذ حبالها الصوتية التي تآكلتْ بفعل ماء النار ومليح أنهم قدروا أن يوقفوا نزيف معدتها وعلى حديث الضرائر، ست فاء بعد أن أكّد لها الأطباء أنها عاقر، بدأتْ تبحث لزوجها عن إمرأة جلاّبة ليخلّف ورغم أن البيت باسمها فإنها تقبل أن تسكن الضرّة معها وأن يربيا الأولاد سوية وعلى ذكر الأولاد: تعرف أن أبا ميم يأتي كل يوم آخر الليل وهو سكران ويبدأ الشجار والنقار بينه وبين زوجته. الأسبوع الماضي رفضتْ أن تفتح له الباب فراح ليقلب من فوق الحيط فوقع ونقلوه إلى المستشفى وبعد إجراء سلسلة من التحاليل، اكتشفوا أنه عقيم وغير صالح للإنجاب فطاش صوابه حائراً من أين جاءتْ زوجته بهاتين البنتين وهذا الصبي الذين يربّيهم ومن هنا إلى هناك صارحتْه زوجته بأن لها عشيقاً ومن الأفضل له أن يرضخ للأمر الواقع ويترك الأمور تجري في مجاريها واقتنع أبو ميم بالأمر على أن ترضى بسكره اليومي وعلى أن الأولاد لمن يربّيهم لا لمن ينجبهم وذكر العقم يجرّ إلى ذكر العنّة. أخبرتْ أم كاف ابنها البكر الذي تجاوز العشرين أن أباه فقد قدراته الجنسية وبدأتْ تحرّضه على أن ينام مع ضرّتها زوجة أبيه الثانية لينتقم لها منها واستساغ الابن الفكرة وراود ضرّة أمّه على نفسها فقبلتْ وناما معاً ومع الوقت ظهر أنها حملتْ من الابن وطاش صواب الأب حين علم بالأمر فأفهمتْه الضرّة بأن الذي في بطنها يبقى ابن العيلة وما هَم أن يكون ابن الابن أو ابن الأب واقتنع الأب بكلامها وتابعتْ الأمور مجراها وكأنها طبيعية. هذا كله يؤكّد أن العقل البشري يتمتع بمرونة طبيعية صلّبتْها الثقافة عصراً بعد عصر حتى خشّب عقلنا وحطّب بحيث صرنا عبيداً لقوانين فرضتها علينا الثقافة والحق يجب أن نستقي قوانيننا من الطبيعة. علينا أن نعيد المرونة إلى العقول البشرية لنبني إنسانية جديدة بعيدة عن تراكمات العقليات البالية البائدة. صديقنا ع.ع.ق. أنجز لوحة زيتية رسم فيها سيدة مبنية من حجر بقدونسي حلبي نحيت وكأنه يقترح إعادة بناء البشرية على أسس طبيعية عريقة في محلّيتها عراقة تجعلها تقبل الثقافات المحلّية لكافة الشعوب. أوشك الصبح أن يطلع وصار من الصعب على الذهن أن يتابع المحاضرات العلمانية ولذا سأصفّي كأسي وأمشي. نراكم شباب!
الفصل السابع
المشهد الخامس
يخرج أبو عين.
الفنان سين: صديقك بالع راديو وتلفزيون. شوّشني فوق ما أنا مشوَّش. العقليات محلية كانت أم عالمية مخردعة مثل كبابيش الخيطان. الإنسان يجب أن يقبل بهذه الخردعة ولا يحاول أن يفكفكها لئلاّ يقطعها. فنزويلا، فرنسا، سوريا، كل الأماكن التي عشتُ فيها أثبتتْ لي أن الإنسان واحد في الجوهر، متعدّد في المظهر. المهم عدتُ من ليون بفشل مضاعف ووجدتُ نفسي وحدي في البيت مع أمي. مات أبي وتزوّج أخوتي وما عاد أمامي غير أن أعمل كل ما يسمى مهناً حقيرة: فترة أجير فرّان وفترة بائع مازوت وفترة مسّاح سيارات و… و… أهم عمل قمتُ به هو أني رشّحتُ نفسي بنفسي إلى انتخابات مجلس الشعب فرسمتُ صوراً لي وكتبتُ عليها شعارات خاصة وألصقتُها على حيطان حلب. أنا أكثر من يعرف حلب والحلبيين وأكثر من يستحق أن يمثّل حلب في مجلس الشعب وأعرف لبنان فقد دُعيتُ إلى الخدمة الاحتياطية خلال الهجوم الإسرائيلي على بيروت. كانت خيمتي قريبة من خيمة شارون ومشكلتي أنني ما كنت أجيد فك الشيفرة رغم معرفتي بالعربية والإسبانية والإنكليزية والفرنسية، فحوّلوني إلى الخدمات الإدارية لتأمين الإعاشة وهكذا عرفتُ لبنان على حقيقتها شبراً شبراً وفرداً فرداً… الحرب أكلتْ ما كان قد تبقّى من عقلي. صرتُ أجنّ من المجانين واستولتْ على رأسي فكرة إصلاح العالم وهكذا فور عودتي إلى حلب دخلتُ في كل الجمعيات الخيرية وأكثر ما استهواني جمعيتا رعاية المجانين ورعاية المساجين. لا أعرف لماذا تسيطر العوانس على كل هذه الجمعيات. صارتْ عندي قناعة راسخة بأن العانسين لوّاطين والعانسات سحّاقات. أغلب الذكور الذين لا يتزوجون، يخافون النسوان ويجدون عند الرجال الأمان وأغلب الإناث اللواتي لا يتزوجن، يخفن الرجال ويجدن عند النساء راحة البال وبنات العِشرة هؤلاء دوّخنني وهنَّ يتهافتن عليّ لأنهن يرَين فيّ أنوثة غالبة ولذا يأخذن حريتهن في محضري ويتغازلن أمامي كما لو كنت واحدة منهن. إنهن لطيفات ولكنهن أحياناً خطرات. بنت عِشرة زوّجها والدها غصباً فقتلتْ ابنها بعدما ولدتْه ووضعوها في العصفورية على أنها مجنونة. قالت لي: لو جلبتُ بنتاً لما قتلتُها ولكن كل من له رأسان يجب أن نقطع له أحد رأسيه: الفوقاني أو التحتاني لا يهم. أمي كانت تدعو على أبي بالإخصاء وكانت تتمنى أن تخصينا نحن أولادها أيضاً. في سنواتها الأخيرة، صارتْ تضع خرطوماً بين ساقيها وتمشي في البيت ومرة نزلتْ إلى الشارع عارية إلاّ من قميص شفاف. كان جنونها أن تظل مغرية ومقبولة عند الرجال. المصيبة الكبرى كانت عندما وقعتْ وانكسر وركها ورآني الجيران من خلال الشبّاك وأنا أغسّلها وهي في حضني فظنّوا بأني أركبها وجاءتْ الشرطة واشتغلتْ التحقيقات. كان هذا الاتّهام أعمق طعنة في قلبي وأثقل ضربة على رأسي. كان قميص نار ورداء دبابيس. اعتذروا بعد أن اكتشفوا الحقيقة ونقلوها إلى دار العجزة ليخففوا عني عبء رعايتها وهناك ماتت بعد شهرين ومنذ أن أخرجوها من البيت إلى أن لفقتْ روحها، ظلّت تصيح: ابني… أريد ابني! الموت الحقيقي هو أن تعيش وحدك بعد الستين وأخشى ما أخشاه أن أموت مقتولاً. تعرف ولاشك قصة ابن عين. كانوا يسمونه مدام عين لشدة تخنّثه. كان مخنّثاً ولكنه لم يكن لوطياً. جمع ثروة طائلة، جعلتْ الناس تطمع به وظلّ يعيش بمفرده مثلي أنا الآن. في يوم استفقدوه في السوق فما وجدوه وبعد أيام، طلعتْ رائحة كريهة من بيته فأحضر الجيران المختار والشرطة وكسروا الباب فوجدوه مقتولاً. وجدوا رأسه مفصولاً عن جسمه. سرتْ إشاعات كثيرة ولكن غريمه ضاع وسُجّلتْ الجريمة ضد مجهول وأخاف أن يصير مصيري كمصيره. الوحدة تُغري المجرمين، خصوصاً إذا كان الواحد غنياً أو مصيوت بأنه غني مثلي. كل ليلة قبل أن أنام، تتوارد إلى خاطري قصص الوحدانيين المقتولين في حلب. لقد أدمنتُ على الخوف وما عدتُ أقدر أن أنام إلاّ خائفاً. صرتُ أحب الكوابيس وأجدها تعطيني قوة. كأني كلما نمتُ وصحوتُ، متُ ورجعتُ إلى الحياة. أخبرني فرّان الحارة أن آباء السحّاقات واللوّاطين كلهم في العادة حبّابو أولاد ومنذئذٍ وأنا أرى في أحلام يقظتي، رجالاً طاعنين في السن يطاردونني وأنا طفل ليركبوني فأهرب وأركض وأظل أركض حتى أقع مغشياً عليّ فأصحو وأشعر بأني بحاجة إلى امرأة، لا لشيء إلاّ لتؤنس وحدتي. وجود المرأة يحسس بالأمان. يبدو أن أحداً استيقظ. الباصات اشتغلتْ وبدأتْ حركة النهار. سهرة لطيفة أرجو أن تتكرر. لا وداعاً بل إلى اللقاء.
الفصل السابع
المشهد السادس
يخرج الفنان سين وتدخل الست ميم.
سيّد سين: صباح الخير بالست الوالدة. إلى أين أم أن المجلس سينعقد عندك اليوم؟
ست ميم: اذهب إلى سريرك! وسأنهي حوستي وسأحضّر طبختي وأستقبل السيدة تاء جارتنا لنقضي الصبحية.
الفصل الثامن
المشهد الأول
المكان: غرفة القعدة في نفس بيت النيّال.
الزمان: ضحوة.
الشخصيات: سيدتان تتحدثان.
ست تاء: صباح الخير! حلب مطبولة بخبر انتحار ابن ألف. رمى نفسه من الطابق الرابع حيث يسكنون. يقولون أنه كان معصوباً. أعرف أخته وأرى في عقلها خضّة وأخته الثانية عشقها وهي في الخامسة والأربعين رجل في الستّينات وهامتْ به هي الأخرى وعاشا قصة غرام أقوى من قصة روميو وجولييت ولكنها رفضتْ أن تتزوجه فجنّ وطقّ ومات فوقع في هواها رجل في الخمسينات وهذا رضيتْ أن تتزوجه ويقولون أنها من كثرة استهلاكها له في الفراش جلبتْ آخرته وهو راضٍ وكان يردّد: وهل هناك أفضل من أن يموت الإنسان عشقاً وجنساً؟ يقولون أنها في صباها لم تترك شيئاً يعتب عليها مع أنها تخرج من صلاة لتدخل في صلاة. لا أعرف يا جارتنا ولكني أحسّ كأن الإيمان الزائد محاولة لإخفاء خطايا كثيرة وأغرب المنتحرين الذين سمعتُ عنهم في حياتي وهم كثيرون، كان يبدو عليهم الإيمان الزائد وأغربهم ابن جيم: غني من أغنياء حلب المعدودين، تزوج وجلب صبياً وبنتاً ولكنّ زوجته كانت من النوع الرافضي، لا يرضيها الرضى ولا المشي في الفضا فعلق بابنة لام وهذه عملتْ له البحر لبنية والنجوم كبّة، فطار عقله بها وصار يلبّي كل طلباتها واستغلّتْ هذه جنونه بها فعملتْ له تسعيرة: اللمسة بكذا والضمة بكذا والبوسة بكذا والنومة بكذا… حتى أوشك أن يفلّس وهنا نصحتْه زميلة له في العمل من دين آخر أن يغيّر دينه ويتزوجها وهكذا يخلص من الإثنتين ففعل وكأن عقله بهذه الفعلة تغيّر فانتحر.
ست ميم: طبعاً طبعاً! أعرفه وأعرف أخا عشيقته. شاب متخصص بالتلاعب على الطبيبات. خطب ابنة بنت حميّ فكشفتْه وقلّعتْه فلصق بطبيبة ثانية وأوقعها في شباكه وتزوّجها وجلب منها ولداً وظلّت تداري حتى وصلتْ إلى مرحلة، طفح فيها كيلها فطردتْه من حياتها طرد الكلاب ولكنه ما تاب بل وجد ضحية أخرى، حاول أن يأكلها لحماً ويرميها عظماً ولكنها تداركتْ أمرها وطلّقتْه بعد أربعين يوماً من زواجهما وفي يوم طلبه الناس فما وجدوه ومع الوقت تأكّد خبر اعتقاله ومحاكمته وسجنه بتهمة تعاطي وترويج المخدّرات.
ست تاء: قبل أن أنسى، ذكّرتِني وأنا طفلة، بابن جيراننا، شاب يقلع توتة، تستحي العين أن تنظر إليه، أحبّ ابنة الجيران ورفض أهله أن يأخذها فصبّ على نفسه كازاً وأشعل قميصه بعود كبريت وحين أحسّ بالنار، ركض ورمى نفسه في الجبّ ليطفئ جسمه فمات وحين جاءتْ الإطفائية لتخرج جثّته، اكتشفوا في حيطان الجب طاقة مليئة بأكياس، أخرجوها فإذا هي كوكايين ودفع الأب رشوة كبيرة للشرطة ليلصقوا تهمة تهريب الحشيش بابنه الذي مات منتحراً وهكذا ابتلى المسكين بموت ابنه وخراب دياره وقال الناس إنه يستحق ذلك لأنه في شبابه قطع السابعة والرابعة وكان يستقبل كل ليلة بنت هوى شكل ويتعاطى كل أنواع المسكرات والمخدرات لدرجة أنه يوم أراد أن يتزوج، ما وجد بنتاً تقبله فأخذ لقيطة من الميتم، لا شكل ولا أصل ولا فصل وعلى ذكر التهريب، تعرفين ابنة لام وزوجة قاف، لها عدة أولاد وزوجها عاطولي باطولي. صارتْ تتاجر بين حلب وتركيا وفي يوم وصل خبر اعتقالها على حدود اليونان وإدانتها بجرم تهريب المخدرات. في السجن علّموها صنعة الخياطة وبعد أن قضتْ محكوميتها انتقلتْ إلى إسبانيا لأن شركة التهريب كانت إسبانية تركية سورية وصارتْ هناك تعمل وترسل المال إلى أولادها. التهريب إذا نجح يغني. تعرفين ابن جيم، كانت عنده سيارة تكسي على خط حلب بيروت وفي يوم ضبطوا في سيارته كذا كيلو باز روح الأفيون، صادروا السيارة ورموه في السجن فجاء أصحاب البضاعة وقالوا لأمه: إذا سكتَ وكتم سرنا وأخذ الجرم على نفسه، أغنيناه إلى أولاد أولاده. نحن لنا رجالنا في الحكومة ولن يطول سجنه. أما إذا حكى وباح باسمنا فليس له عندنا غير رصاصة. سنقتله عندئذٍ في السجن أو خارجه. كان جبّاراً فأقرّ وأصرّ على أن البضاعة بضاعته وليس له أي شركاء. نام في السجن عامين وحين خرج أعطوه الأموال كدسات كدسات فباع كل شيء وسافر إلى فنزويلا واشتغل في كراكاس وصار من أصحاب الملايين ولا تنسي ابن راء الذي كان يعمل ميكانيكياً وصار يجهّز السيارات بجيوب خفية لإخفاء الممنوعات. ضبطوه أيضاً وانسجن لمدة قصيرة ويوم خرج أغرقه رؤساء العصابة بالمال وصار وتصوّر.
ست ميم: التهريب لا يغني دائماً، إنه أحياناً يبلي. أم لها صبي وثلاث بنات. مات الصبي فحقدتْ على الحياة وصارتْ تعامل زوجها بقسوة أوصلته إلى المرض والموت وحين كبرتْ ابنتها البكر، راحتْ تدفعها إلى البغاء لتؤمّن معيشة العيلة. البنت أحبّتْ وتزوجتْ وخلّفت ابناً من شاب مهرّب عشق زوجة رفيقه وفي يوم ضبط الرفيق المخدوع زوجته ورفيقه في الفراش فسحب مسدسه وقتلهما ثم قتل نفسه. أهل الزوج المقتول اقتنعوا بأن حماته أفشتْ سرّه لغريمه فرموا عليها سبب قتله وورّطوها بتهمة تهريب قضتْ بسببها عشر سنين في السجن وحين خرجتْ بدأتْ تعاني الأمرّين من سلوك حفيدها الذي أصابه الفصام نتيجة انقسامه بين دين أمه ودين أبيه وحالات الأمراض النفسية عند أولاد المتزوجين من دينين مختلفين تزداد يوماً بعد يوم وأغلبها ينتهي بمأساة.
ست تاء: قصص المهربين أكثر من قصص الأولياء والقدّيسين ويختلط فيها الخيال بالواقع فمنذ قريب سمعتُ أنّ رجلاً ذو رجل خشبية جمع ثروة طائلة بإخفائه الممنوعات داخل رجله الخشبية وتهريبها من بلد إلى بلد وسمعتُ مرة قصة عن امرأة ماتت في راجو فطلب أولادها الأذن بنقلها لدفنها في مقبرة عائلتها في تركيا وعند مخفر الجمارك اصطدمتْ سيارة بالشاحنة التي تنقل النعش فانقلب وإذا به مليء بالمخدرات وحدّثوني عن عصابة تهريب، درّبت حميراً على قطع الحدود بين سوريا وتركيا بمفردها وصاروا يحمّلونها بالممنوعات فتنقلها بأمان إلى أن كان يوم انفجر لغم في أحد الحمير فانكشفتْ الحيلة ولا أعرف سر ارتباط التهريب بالفجور والدعارة وبالتالي بجرائم القتل. لا أدري ما الذي يجرّنا دائماً إلى أن نتحدث عمّا يعصّ القلب. أنا مغرمة بالأفلام البوليسية والأفلام المرعبة ولا أهوى الأفلام الغرامية أبداً. الرعب يثيرني، يحرّضني، يحرّكني أما الأمان يعني الحب والعشق فيحبطني، يبرّدني، يجمّدني وأحب قصص الخيانة ولا أرى أنها دائماً تنتهي إلى عواقب وخيمة. صبية تزوجتْ وسافرتْ مع زوجها إلى الخليج وهناك تعرفا على عروسين بنفس عمريهما. كان الزوج يذهب إلى العمل ويغيب أحياناً خمس عشرة ساعة والزوجة في البيت تحوس أو تطبخ أو تتفرّج على التلفيزيون أو تنام. ذات مرة زارها صديقهما الزوج بمفرده وادّعى أنه كان قريباً فمرّ ليسلّم عليهما ولا تدري الزوجة كيف نامت معه بسهولة لم تكن تتصوّرها أبداً وتتالتْ اللقاءات الغرامية وفي يوم ضبطهما زوجها معاً فطلّقها فوراً دون شوشرة. حين علمتْ زوجة العشيق بالأمر، طلبتْ الطلاق أيضاً فأذعن زوجها لطلبها فوراً وطلّقها وذهب وتزوج عشيقته. بعد أيام، تزوج زوج العشيقة مطلّقة العشيق واتضح أنه كان يزورها أيضاً ويطارحها الغرام. مضى على هذه الحادثة قرابة خمسة عشر عاماً ومايزالون جميعاً يعيشون في ثبات ونبات وقد خلّفوا صبياناً وبنات. كأن الخيانة هنا أصلحتْ اعوجاجاً أو كأن هناك متاهة خفية تنتهي بالناس إلى المخرج الصحيح. زيدي على ذلك أن هذا التبادل الزوجي وقع بين مجموعتين من دينين مختلفين وأن أولادهم لم يعانوا من أي مرض نفسي ولا عاشوا أية مآسي لأنهم جميعاً هاجروا من الخليج: ناس إلى أوروبا وناس إلى أميركا واندمجوا هناك في الحياة العلمانية وهكذا لم ينجم عن كل ما جرى غير الخير. أنا لا أبرّر الخيانة ولكني أدعو إلى تغيير وجهات النظر. الحكي للحكي مرغوب ومطلوب ولكن لا بأس في بعض الأحيان أن نحكي لنحلل ونعلل ونصل إلى نتيجة يمكن أن تغيّر واقعنا. يجب أن نختلف وليس طبيعياً أن نكون كلنا مثل بعضنا ولكن يجب أيضاً أن نقبل هذه الاختلافات، قبولاً يجعلنا نتفاهم ونصل إلى الانسجام. منذ بدأتُ أستعير كتباً من عند أولادك، تفتّح ذهني وتغيّرتُ مئة وثمانين درجة ولكن عصر القراءة انتهى. الآن عصر جديد صرتُ أشعر فيه بأني عجوز. أذكر وأنا صغيرة ألعب في الحارة، أن عجوزاً اقتربتْ مني وقالت لي: يا ابنتي! إقرئي لي هذا العنوان! أشعر الآن بأني مثل هذه العجوز، غشيمة في الأمور الإلكترونية والغشيم أخو الجدبة. ما عاد لي بال ولا صبر لأتعلّم ولكني سأجبر حالي على التعلّم لأني أريد أن أكون بنت هذا العصر والإرادة تعمل معجزات. حلبية تزوجتْ فرنسياً كان في زيارة إلى حلب وسكنا باريس. جلبتْ منه طفلاً وبعد فترة صارحها بأنه عضو في جمعية التبادل الزوجي. ما استاءتْ ولا غضبتْ وفكّرتْ بعقلها الكبير وقالت لنفسها: حلب شي وباريس شي. قوانين المجتمع الحلبي غير قوانين المجتمع الباريسي وغلط أن أمشي على مبادئ سوريا فوق أرض فرنسية. الإرادة بنت العقل وهذه أرادتْ أن تدخل التجربة ودخلتْها. بعد فترة صار معها مثلما صار مع التي تزوجتْ إلى الخليج. المبادئ معايير والأخلاق مقاييس نحن نضعها ونحن نغيّرها ولماذا نستغرب التبادل الزوجي ولا نستغرب أن يعيش سبعة رجال مع امرأة واحدة كما في التيبت أو أن تعيش أربع نساء مع رجل واحد كما عندنا. المعرفة تفتح الذهن وهذا يجعل العقل مرناً وبهذه المرونة العقلية تتقدّم البشرية. أين هذه من التي تزوجتْ إلى فنزويلا ورأت زوجها يلاطف زبونات المحل ليضمن استمرار مجيئهن للتبضّع من محله؟ جنّتْ وما كنّتْ وصارتْ ليلاً ونهاراً تشكي وتبكي وتزعق وتبعق: بدّي أمي، بدّي أرجع لحلب… وفي النهاية يئس زوجها منها ووضعها في طائرة وأعادها إلى أهلها. جاءتْ إلى حلب وماذا عملتْ؟ صارت تنطّ من رجل إلى رجل وتخلص من زبون لتعلق بزبون حتى تغيّر عقلها. لا هذه عقلها غلط من البداية. ليستْ فلتتها بعد عودتها التي غيّرت عقلها. عقلها حجر منذ كانت طفلة وفكرها لا يمدّ وطبيعتها جنونية ولو أنها تقدر أن تشغّل عقلها ولو قليلاً لما وصلتْ إلى هذه المواصيل.
ست ميم: العقل زينة وخسارته حزينة. ذكّرتِني ببنت طه. زوّجها أهلها إلى فنزويلا وهي صغيرة بالكاد بلغتْ. في كراكاس صار زوجها يعاملها مثل عبدة أو أسيرة عنده. صبرتْ وعضّتْ على الطاولة وبدأتْ تدرس لغة الكسكليانو وأخذتْ بكالوريا ودرستْ الحقوق وصارتْ محامية وقالتْ له: خاطرَك، باي باي! وهي الآن من أكبر المحاميات والمدافعات عن حقوق المرأة في العالم. مثلما قلتِ: العقل الكبير يجعل بيدنا المصير.
ست تاء: أين هذه من بنت صاد: تزوجتْ إلى بوسطن وهناك اكتشفتْ أن زوجها يشتغل على الطرفين: له زوج وزوجة. بدلاً من أن تكبّر عقلها وتحاول أن تشفيه من عقدته وتخلّصه من محنته وتحوّله من رجل ممحون إلى رجل مضمون، دقّتْ رجلها في الأرض وأصرّتْ أن يعيدها في أول طائرة إلى حلب مع أن كل أصدقائه أكّدوا لها أنه قابل للشفاء وأنها قادرة أن تضعه على الطريق الصحيح لكنها ركبتْ رأسها وأصرّتْ على العودة. هل من أحد يصل إلى أميركا ويعود إلى حلب، إلى جورة الهم؟ وماذا عملتْ في حلب؟ اكتشفتْ أنها تعقّدتْ من الرجال وصارتْ حبّابة بنات. لا لا لا هذه حبّابة بنات قبل أن تتزوج وتسافر وأكبر ظنّي أن حديثها عن زوج زوجها اختراع في اختراع. الحقائق دائماً واضحة مثل عين الشمس والشمس لا يمكن تغطيتها بغربال.
ست ميم: الأصل العقل والناس لا يفرّقون بين الأمراض العقلية والأمراض النفسية. مريضة نفسياً وصلتْ إلى أن تصير مهندسة وطبعاً في حلب لا شيء يُخفى فصار الشباب يتجنّبونها هرباً من العلقة بها. جاء مغترب حمصي وتزوّجها وأخذها إلى أميركا. هناك اكتشف أنها مريضة نفسياً فخيّرها بين أن يعيدها إلى سوريا أو أن يطلّقها وتبقى في أميركا. الأصل العقل كما قلتُ لكِ. اختارتْ أن تتطلّق وبقيتْ وتعالجتْ يعني لم تصر طبيعية مئة بالمئة ولكنها صارتْ شبه طبيعية وعملتْ وفي العمل أحبّها أحد زملائها وتزوجا وصارتْ أمّاً وهي الآن تعيش حياة أكثر من طبيعية. كل هذا بفضل عقلها والطب الذي وصل إلى مراحل من التقدّم تحقق ما كان حلماً.
ست تاء: عيني ما تصيبِك. كل إصبعة فيكِ بإمرأة! ونحن نتحدث أنهيتِ كل أعمالك المنزلية وأنا أيضاً أوشكتُ أن أنهي الصدر. إني أغزل كنزة لابنتي. آه! جيل الآن غير جيلنا. جدّاتنا وأمهاتنا ونحن نعمل ونحكي. ترين هذه غز مز والأسياخ بيديها وتلك تشوّف والثالثة تطرّز والرابعة تشركس… يعني لا نقضي وقتنا في العلك فقط. نعمل ونعلك وعلكنا له طعمة، له هدف، فيه عبرة، فيه مشورة، فيه خبرة، فيه تبادل آراء وأخذ وعطي يوصل إلى نتيجة، أما جيل اليوم فلا يقدر أن يجمع أمرين معاً. حطّيهم لطق الحنك والعلك الفاضي والتسلية ولعب الورق ولماذا الطبخ والنفخ وتوجيع الراس؟ الأسواق مليئة بالأطعمة الجاهزة. نحن كنا نخصص ظهيرة الأحد للعب الورق وربما نأكل مرة في الشهر من السوق. هذا جيل الفطاير، جيل الشغل عالطاير، جيل هات إيدَك والحقني. الأم يهمّها شعرها وزينتها ومتابعة مسلسلاتها أكثر من اهتمامها ببيتها وأولادها والأب يرجع من شغله وينصلب أمام التلفزيون ويا قوم لستُ منكم، كأنما ليست له امرأة ولا أولاد. الدنيا تغيّرت والناس تغيّروا.
ست ميم: الدنيا فيها أشكال ألوان والناس أشكال ألوان. أنتِ تحصرين البشر كلهم في زاوية واحدة. النظرة الواحدة نظرة محدودة. الزمان كالزمان والناس كالناس وفي كل عصر هناك الشغّيل والباطولي والنصف على نصف، هنالك المليح والعاطل والبين بين. ها قد وصلتْ لام من المدرسة. انظريها: معلّمة وست بيت وأم. جوّا وبرّا وبين الأبواب وقبلها كانت ابنة حميّ جيم تعمل وتربّي وخرّجتْ أطباء ومهندسين. كل جيل وفيه ناجحون وفاشلون وليس الخير حكراً على جيل دون جيل.
الفصل الثامن
المشهد الثاني
تدخل ست لام.
ست ميم: أهلاً وسهلاً، هاتِ ما عندكِ!
ست لام: إلغاء مادة الفتوّة كان خطوة رائعة، لكن المدراء والموجهين والأساتذة ما يزالون يعاملون التلاميذ والطلاب وكأنهم بهائم وحيوانات. المدير رأى طالباً متراخياً في وقفته فهجم عليه وراح يكيل له الإهانات والشتائم ثم انهال عليه ضرباً، لكماً ورفساً بلا وعي فما كان من الطالب إلاّ أن استدمى واستوحش ولكم المدير لكمة كسرتْ له سنّاً وضرساً وراح الدم ينفر من فمه مثل نوافير المشتل وجاءت الإسعاف والشرطة وخذوا وهاتوا على تحقيقات! لا يمضي شهر دون أن ترسل الوزارة تعميماً بعدم الضرب وبالتعامل مع التلاميذ والطلاب تعاملاً إنسانياً ولكن أغلب الجهاز التدريسي مايزال يصرّ على همجيّته ووحشيته. قلتُ لأحد محترفي الضرب: لو كان هذا ابنك فهل تضربه هذا الضرب المبرّح وهل تسبّه هذا السباب القادح؟ فقال: أضربه وأسبّه وأسبّ وأضرب أمه معه وما مرّتْ ساعة حتى تعالق هذا الجاهل على علمه، مع طالب ولطمه فكسر له نظّارته وبدأ الدم يتدفّق من عينيه فنقلوه إلى المشفى وزجّوا بالأستاذ في السجن وهو قيد المحاكمة. أنصار العنف في مدارسنا يؤمنون بأننا شعب لا نمشي إلاّ بالعصا وهم كثيرون وأكثر مما تتصوّرون. الاحترام والمحبة كلمتان انقرضتا من القواميس العامة والخاصة. الإهانة والكراهية صارتا طبيعيّتين. اللطف يَبيد والعنف يسود في كل مكان ودون استثناء. حيثما ذهبتم رأيتم أناساً مقهورين والمقهور قاهر. لقد تحوّلنا إلى مجتمع من المسحوقين والمسحوق ساحق. المعلمات إما متزوجات يخفن أن يطقّهن أزواجهن بضرائر وإما عازبات يقبلن أن ينزلن ضرائر وإما فلتانات يردن أن يعشن على كيفهن دون رقيب أو حسيب والمعلمون إما متزوجون يبحثون عن زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة وإما على وشك الطلاق أو عازبون يبحثون عن زواج مصلحة يصلحون به أحوالهم المتدهورة أو فلتانون ينتقلون من واحدة إلى واحدة ويفتخرون باستغلالهم لأكبر عدد ممكن من الإناث والطلاب حدّثوا ولا حرج… يقطّعون القلوب بسوء المعيشة التي يعانون منها. قطعان بلا رعيان. طالب هو الرقم عشرين بين أخوته البالغ عددهم ستة وعشرون. أبوه لا يعرفه وهو لا يكاد يعرف أباه. اتّهمته زوجة أخيه بأنه يبصبص عليها ويلاحقها ليركبها ونقل زوجها الاتّهام إلى أبيه فطرد الأب ابنه الطالب وهو الآن يعيش عند أحد أخواله الذي يعمل في جمع المواد القابلة للتدوير من القمامات ومن ضيق الحال صار الطالب يعمل مع خاله ومن خلال هذا العمل تعرّف على عصابة صبيان يديرهم شخص مرموق. صبيان يختارون رجال محترمين وميسورين ويتبلّونهم بتهمة التحرّش الجنسي والفعل الشنيع وأخبرني المسكين أن هذا الشخص المرموق على اتفاق مع عناصر الشرطة في المخفر بحيث يبتزّون المتّهم بالتحرّش ويسحبون منه ما يتيسّر من أموال ويتقاسمونها وصارحني بأنه يريد العودة إلى بيت أبيه ولكن والديه يرفضان لأنه وسخ مع إنه يؤكد بدلائل قاطعة أن زوجة أخيه هي التي تلاحقه وتعرض نفسها عليه وأنه الذي يرفض ولكن أحداً لا يصدّقه. معلمة سألتها رفيقتها: ماذا كنتِ تفعلين أمس في شارع النيل؟ فأجابتها: أمس؟ ما غادرتْ البيت مطلقاً. فقالت لها: رأيتُ سيارتكم أمام مخزن كذا. خرجتْ المعلمة من المدرسة وذهبتْ إلى مخزن كذا في شارع النيل فرأت سيارة زوجها. هنا لعب الفأر في عبّها. لقد ودّعتْ زوجها في المطار قبل ثلاثة أيام، على أساس أنه يجب أن يُثبت وجوده في السعودية لتثبيت إقامته فكيف جاءت السيارة إلى هنا؟ وبعد سؤال وجواب وبحث وتفتيش، دلّها سمّان الحارة على بيت صاحب السيارة. ذهبتْ ودقّتْ الباب وإذ بزوجها يفتح لها ويقول: حسناً الآن عرفتِ أني متزوج من ثانية. كنتُ محتاراً كيف سأخبركِ والآن عرفتِ. الشرع يسمح لي ولم أقترف إثماً ولا ذنباً. إن أعجبكِ الحال تابعنا وإن لم يعجبكِ فأمامك الطلاق. عندما أنهت المعلمة قصتها، قفزتْ معلمة ثانية وقالت بأنهن يؤسسن الآن جمعية العصمة بيد المرأة وهي جمعية تضم إناثاً لا يقبلن الزواج إن لم تكن العصمة بيدهن وقالت بأن هذه الجمعية تلاقي اضطهاداً من أغلب فئات المجتمع وأن الرجال يتضامنون ليقاطعوا أي أنثى تنضم إلى هذه الجمعية. الحالة التي تزعّل حقاً. حالة معلمة عصرية، فجأة ودون سابق إنذار، تحجّبتْ بنقاب أفغاني وحملتْ سبحة بمئة حبة وحبة وراحتْ طوال الوقت تبسمل وتحوقل وتكبّر وتقرأ الفاتحة وتصلّي وتصوم وشيئاً فشيئاً…. أهملتْ بيتها وزوجها وأولادها واعتكفتْ تتابع برامج الدعاة في الفضائيات وكلما طلب أحد من أفراد أسرتها شيئاً، أجابته بآية أو بحديث عن وجوب الاستعداد لدخول الجنة. أمام تفاقم وضع الأسرة المعيشي نتيجة إحجام ربة البيت عن القيام بواجباتها المنزلية وبعد فشل محاولات الزوج في إعادة زوجته إلى حياتها الطبيعية، قرر أن يأخذها إلى طبيب نفسي لعله يجد لها دواءً يعيدها إلى طبيعتها وبعد عدة جلسات نفسية أخبر الطبيب الزوج أن زوجته تعاني فصاماً حاداً نتيجة إحساسها بالذنب وقلقها من انكشاف هذا الذنب وأضاف بأنه في الإمكان إيقاف تطور هذا الفصام وتخفيف نتائجه ولكن يستحيل إعادتها إلى طبيعتها مئة بالمئة وأنه من الواجب مداراتها وتدبير أمور معيشة الأسرة على أساس هذه الوقائع الجديدة. الزوج تبلبل فكره وسيطرتْ عليه رغبة معرفة الذنوب التي ارتكبتْها زوجته والتي تخشى أن تنكشف فراح يبحث في ماضيها ويراقب حاضرها ومن هنا إلى هناك وبعد سؤاله هذا وذاك وهذه وتلك، اكتشف أن زوجته كانت لها ميول سحاقية قبل زواجها وصارتْ لها علاقات سحاقية بعد زواجها والأدهى من ذلك أنه اكتشف بأنها انتقلتْ من أن يكون لها صاحبات إلى أن يكون لها أصحاب وحيث أنه رجل طيب ولا يحب الفضائح، كتم كل شيء في قلبه وتابع علاجها على أمل شفائها دون أن يحاسبها أو يدينها، مؤمناً بأن سلوكها النابي ناتج عن مرض نفسي لا عن طبيعة شريرة. المهم وأيضاً ودون سابق إنذار، صارتْ تتهمه بأنه سبب منعها عن الطريق الموصلة إلى الجنة وراحتْ تهدده بقتله بأمر إلهي. الرجل لم يرَ بدّاً من تطليقها بإحسان ليتحاشى النقد واللوم. المجنونة بالوصول إلى الجنة حين صارتْ عند أمها وأبيها الوحيدين في البيت، فلتتْ على حبل ذراعها وما عادتْ تترك شيئاً يعتب عليها والأنكى من ذلك أنها باتتْ ترفض استقبال أولادها وتقول لهم: اقتلوا أباكم أعترف بكم! أما إذا لم تقتلوه فلا أنتم أولادي ولا أعرفكم وآخر الأخبار عنها أنها أصيبتْ بمرض السرطان وترفض العلاج الطبي وتداوي نفسها بحسب كتيّب عنوانه: أدوية الرحمان في علاج السرطان.
ست تاء: ذكّرتني بالمهندس ع.ق. أصاب السرطان رفيقه وقال له الأطباء: يمكن علاجك بحيث تعيش من ثلاث إلى خمس سنوات فلعب صديق له بعقله ونصحه باتّباع وصايا الرحمن في علاج السرطان فمات بعد ثلاثة شهور.
ست ميم: حالة هذه المعلمة ذكّرتْني بزوجة ابن شين، رجل ثري ومتعلّم يتفانى في رعاية أسرته وفجأة بدأتْ امرأته تعامله بالسوء وتعتبره سبب كل تعبها وعذابها وأن ما يقدمه ليس أكثر من حاجات مادية أما من النواحي المعنوية والعاطفية فليس أكثر من صفر على الشمال وتفاقمتْ حالتها حتى صارتْ تؤذيه جسدياً وتماشياً مع آراء الأطباء، ترك لها البيت وعاد ليعيش في بيت أهله فأرسلتْ له الأولاد بعد أن قالت لهم: اقتلوا أباكم يكن هذا بيتكم! وإلاّ فلا أنتم أولادي ولا هذا بيتكم. إيه المسكين! من شدة حزنه وألمه طقّ ومات وما وجد في سلوكه مع زوجته أي سوء يؤدي بها إلى هذا الجفاء والعداء ولا قدر أن يقتنع بكلام الأطباء المعالجين بأن زوجته امرأة مشوّهة خلقة، تماماً كما نرى بين الفواكه برتقالة أو تفاحة مشوّهة شكلاً أو طعماً أو الإثنين معاً.
ست تاء: هذا كله يذكّرني بقصة ابن لام الذي تزوج من بنت سين وبعد فترة بدأ الناس يلاحظون عليه تغيرات غريبة ويوماً بعد يوم صارتْ تصرفاته غير طبيعية على الإطلاق. بات يرفض أن يشرب من مياه الشركة ويرفض أن يشعل أي مصباح كهربائي فأخذوه إلى الطبيب النفسي فقال إنه يعاني من فصام حاد وبحاجة إلى علاج طويل ولكنه رفض العلاج وساح في الشوارع وراح يوقف المارة ويسألهم: كم مرة يجب أن ينام الزوج مع زوجته في اليوم؟ وصلتُ إلى ست مرات ولا تنفك زوجتي تقول لي: لستَ برجل. يعني كم مرة يجب أن أنام معها لأصير رجلاً؟ الأمر واضح. بأمر من زوجتي وأنتَ تعرف: المرأة يطيعها الرجال ما دام لهم فيها آمال. بأمر من المرأة التي لا تشبع من الذكور، يدسّون السم في الماء لأشربه فيخلو لهم الجو معها ويريدون أن يقتلوني بالإشعاع المبثوث بواسطة ضوء المصابيح الكهربائية ليركبوا بعضهم بعد التخلص مني. المسكين حاء، حالته تقطّع قلوب الأعادي.
ست ميم: لا أعرف ما سر قصة تجنّب الماء والكهرباء فابن نون أيضاً، يمنع عن عائلته استخدام ماء وكهرباء الشركة ويدّعي بأنه مثل المسيح محبول به بلا دنس ويتّهم زوجته بالزنى لأنه لم يقربها أبداً فكيف جاءتْ ببنتين وصبي؟ المهم أخذوه إلى الطبيب النفسي فقال إنه أيضاً يعاني من فصام وتقول أمه إن سبب مرضه يقع على امرأته، لأنها لم تكن بكراً وأن ابنها صارحها بأن عروسه مفتوحة ولكنه ستر عليها ومنذئذٍ تبلبلتْ أحواله وبدأ يهلوس ويقول إن امرأته تستحلبه استحلاباً وتكاد تهلكه بشهواتها الجنسية غير المحدودة ويقولون إنه وصل إلى نقطة لا يمكن تجاوزها وصار واجباً أن يُدخلوه العصفورية. قالت زوجته: لو لم يأخذوه إلى العصفورية لكنتُ أنا الآن هناك فالعيش مع مجانين أرحم من العيش مع مجنون واحد. كان يهلكني بتكالبه الشهواني ويلاحقني كظلّي من أجل تلك الشغلة وما كنتُ أكسر بخاطره ولكنه كان يزيدها لدرجة أنه كان أحياناً يقذف دماً وصرتُ أخاف على بناتنا منه خصوصاً حين بدأ يؤمن أنه (دوق أو كونت أو مركيز) ويحق له أن يأخذ بكورة بنات الفلاحين التابعين له ولقد ضبطتُه مرة يحاول أن ينام في سرير ابنتينا فما عاد يغمض لي جفن وأنا أراقبه لأمنعه من أن يعيدها.
ست تاء: النسوان بلاوي في كل زمان وما غلطوا حين قالوا: كل شيء من المرأة. هذه أيضاً قبل أن تتزوج قطعتْ السابعة والرابعة والتاسعة. أغلبهن يخبّصن على كيفهن ثم يتظاهرن بأنهن ملائكة.
ست لام: لا تحكي كلمة أكبر منكِ! المرض النفساني واقع ولا أحد على رأسه خيمة ولا دخل للمرأة إذا كان زوجها مريضاً كما لا دخل للرجل إذا كانت زوجته مريضة. للمرض أسباب وراثية وتربوية و…. و… ويجب أن نكبّ هذه الأفكار البالية في أن كل شيء من المرأة أوكل شيء من الرجل. واحدة كلما حبلتْ، راحتْ تكيل أشنع الشتائم لزوجها لأنه السبب في تحبيلها وفي تعريضها لخطر الموت أثناء الولادة. الحبل شيء طبيعي وليس مرضاً وليست كل حبلى معرضة للموت أثناء الوضع. موت الماخضة أمر نادر ثم إذا كانت تخاف على نفسها بهذا الشكل فلماذا لا تكاد تفطم ابنها حتى تعاود الحبل؟ هذا بطر نسوان فارغ.
ست ميم: ذكّرتِني بأبي كان يحكي قصة ملك سأل وزيره: ما ألذ الألذ؟ استعصى على الوزير الجواب فرأته ابنته وسألته: ما لي أراكَ مهموماً؟ فأجابها: سألني الملك ما ألذ الألذ ولا أجد جواباً فقالت له: ألذ الألذ؟ نومة المرأة مع رجلها فأمي تقيم الدنيا وتقعدها كلما حبلتْ ولا تكاد تضع وتفطم حتى تعاود الحبل فلولا أنها تلتذّ لذة تنسيها آلام الولادة لما أعادتْ الكرّة.
ست تاء: المرأة والرجل كلاهما لا يقصّران في بعضهما البعض. الاعتراف بالحقيقة فرض. امرأة اكتشفتْ أن لزوجها عشيقة فذهبتْ إلى زوج عشيقة زوجها وأخبرته بحقيقة زوجته فقال لها: أعرف ما تقولين وأنا راضٍ بذلك إنها لا تقصّر أبداً في واجباتها تجاهي ولا تجاه أولادها ولا بيتها وما دامت تعشق عن طيب خاطرها ولا أحد يجبرها فهي حرة، خصوصاً وأن عشقها لغيري لا يؤثر أبداً على حسن علاقتها معي، بالعكس قبل أن تعشق كانت تعاديني والآن تتفانى لترضيني. إن امرأة واحدة تقدر أن تُرضي كذا رجلاً وكذا رجلاً لا يقدرون أن يُرضوا امرأة واحدة. تعرفون قصة الجنّي الذي أرسله ملك الجان ليرضي امرأة؟ كعي وعجز، الجنّي جنّ وما أرضى ست الحسن. المهم صاحبتنا أعجبها زوج عشيقة زوجها فتعاشقا وحلّت العدالة الطبيعية.
ست ميم: في هذه الحياة كل شيء ممكن والمستحيل في العلاقات البشرية خرافة. صديق كمش صديقه كمْش اليد مع زوجته فطلّقها فوراً وظلّ على علاقته بصديقه لأنه اعتبره بريئاً واعتبر زوجته مذنبة لأن (الإنتاية مي بالمصفاية) ولولا أنها أغوت صديقه لما خانه.
ست لام: أعرف قصة مطابقة لهذه القصة ولكن بالعكس. امرأة لقطتْ زوجها مع صديقتها فطلبتْ الطلاق فوراً وبعد أن تطلّقتْ حافظتْ على علاقتها الطيبة بصديقتها واعتبرتها بريئة واعتبرتْ زوجها المجرم لأن (الرجال مي بالغربال).
ست تاء: تطابق القصص وارد كثيراً في الحياة. اسمعوا هذه القصة: أيام الانتداب الفرنسي، راسل عمي فتيات فرنسيات يعرضن أنفسهن للزواج في إحدى المجلات وحيث أن أخاه الأصغر أجمل منه فقد أرسل صورة أخيه بدلاً من صورته وحدث أن واحدة قبلتْ عرضه وجاءتْ إلى حلب. نظرتْ فاكتشفتْ أن شكل العريس غير شكل الصورة وعرفتْ أنه أرسل صورة أخيه فقالت: أقبل أن أتزوج صاحب الصورة ولكن صاحب الصورة عمّي الأصغر كان خاطباً فرفض ورفضتْ الفرنسية العودة إلى بلدها قبل أن تنهي إجازتها البالغة شهراً وخلال إقامتها اكتشف عمي الأصغر أن خطيبته تحب أخاه الأكبر وأنها خطبتْه على أمل أن يتحرّك أخوه وحين صارحها بالأمر، ما نكرتْ بل أقرّتْ بحبها ورغبتها بالزواج من أخيه فذهب وكان جريئاً وصارح أخاه بهذه الحقيقة فاعترف له أخوه بأنه يحب المذكورة ولا يمانع في الزواج منها وهكذا تزوج عمّاي في نفس اليوم الكبير أخذ الحلبية والصغير أخذ الفرنسية. نفس القصة صارتْ مع بنت باء. أرسلوا صورة أختها إلى عريس في فنزويلا فقبلها ولما وصلتْ إلى كراكاس نظر فرأى أن صاحبة الصورة غير الحاضرة أمامه فرفضها ورآها أخاه الأصغر فأعجبتْه وكان خاطباً فصارح خطيبته بالأمر فقالت له: مليح طلعت منك ما مني وأخبرته أنها تحب أخاه الأكبر فذهب وأطلع أخاه على الحقيقة فوافق الأخ على الزواج منها واعترف بأن عينه كانت عليها منذ أن كانت صغيرة وهكذا تزوج الأخوان في يوم واحد وربّ صدفة خير من ألف ميعاد!
ست ميم: لا صدفة ولا حدفة. هناك أصابع خفيّة يسمونها أصابع القدر، تغزل حياة البشر. واحد دار حلب وما أعجبته أية فتاة وأوشك أن يصير ابن كَبر دون زواج. راح إلى فنزويلا ليحضر عرس أخيه وهناك أصابه الحب من أول نظرة. أعجبتْه ابنة خالته المولودة في كراكاس والتي التقى بها أول مرة في هذا العرس وتزوجا. هل هذه صدفة؟ لا وألف لا! هذه خطّة مرسومة، كانت مجهولة وصارتْ معلومة. واحدة صارتْ بنت كبر وما التفتَ إليها أي رجل في حلب. راحتْ إلى أميركا لتحضر عرس ابن أختها وهناك طبس في هواها معلم العريس ورب نعمته. أميركي معه أموال لا تحرقها نيران فلمّها وشمّها وضمّها وتعيش الآن ليس كملكة بل كامبراطورة. هل هذه صدفة؟ كلا ثم كلا! هذا نصيب منصوب منذ أن انتصب هذا الكون.
ست لام: زمن الخرافات فات. نحن في عصر يثبت أن كل عنزة معلّقة من كراعيبها. كل واحد مسؤول عن حياته وعن أعماله لأن كل واحد حر في أن يختار ما يريد. يتيمة ونعود إلى سيرة الصور، أروها صورة الأخ الأصغر وعلى طاولة الإكليل، فوجئت بأن الأخ الأكبر هو العريس. عضّتْ على الطاولة وما فتحتْ فمها بكلمة وبعد أن أنجبتْ خمسة أولاد، هجرتْ زوجها وتركتْ أولادها قطع لحم وبيتها وسافرتْ إلى بيروت. هل هذا قدر؟ كلا وألف كلا! هذا اختيار. هذه إرادة. هذه خطة مبطّنة ونيّة مبيّتة وبعد حوالي عشرين سنة عرض عليها أحد أولادها أن تعود لتعيش عنده وهو الذي ما تربّى على يديها بل على أيدي عمّاته فقبلتْ وظلّتْ في بيته حتى ماتت. هل هذا نصيب؟ لا وألف لا! هذا تصميم، رغبة منتقاة ورضى مدروس.
ست ميم: الإنسان حصان مربوط. هناك أشياء بيده وأشياء خارجة عن يده. يحكون عن واحد، لا أريد ذكر اسمه، ما ترك وسيلة ولا حيلة ليجد فتاة تقبل به زوجاً وبعد طول لأي وبحث علقتْ به شابّة مهندسة قالت إنها رأتْه في أحد أحلامها وأنها تبعتْ دلالات حلمها ذاك حتى وصلتْ إليه وفي ظرف أيام تزوّجا وما تركا طبيباً ولا دولة إلاّ وزاراها ليجلبا في النهاية بنتاً من بيت العقر يعني بنتاً يستحيل أن يجلبا بعدها ولداً والآن بعد أن صار في الستينات وزوّج ابنته وصار له حفيد يعني صار جَداً، قام يعشق ويتمعشق ويصاحب ويتردد على واحدة تصغره بأكثر من عشرين سنة ويطمّعها بأمواله ولكنها تصمم على أن لا تسلّم نفسها إليه بالكامل إلاّ إذا اشترى لها بيتاً وسيارة. في الأول وعدها بأن يطلّق زوجته ويتزوجها بالقانون وحين اكتشف استحالة الطلاق، عرض عليها المصاحبة فقبلتْ كما قلتُ لكم على شرطها ذاك. إذا اعتبرنا أن زواجه كان قسمة ونصيب وقدر مكتوب فلا يمكن أن نعتبر مصاحبته إلاّ إرادة وتصميم واختيار. الإنسان محيّر، مرة مسيّر ومرة مخيّر وقد لاحظتُ أن الجهلة يميلون إلى القدرية والجبرية في حين أن العارفين يميلون إلى الحرية وهذا طبيعي فالحرية وعي ومسؤولية والغالبية تفضّل التبعية والراحة على الاستقلالية والتعب.
ست تاء: الشيء بالشيء يذكر. للأحلام أثر كبير في حياة البشر. شاب خطب فتاة بعد أول زيارة لبيتها فعارض أهلها هذه الخطوبة وظلّوا حتى حملوه على أن يفكّ ابنتهم. وقعتْ هذه الفتاة فريسة المرض نتيجة هذه الفكّة وراحتْ صحّتها تتدهور حتى شارفتْ على الهلاك فركض أهلها وقدّموا الاعتذارات للخطيب وظلّوا حتى أقنعوه بالزواج من ابنتهم. ويوم عاد صحتْ من غيبوبتها وقالت له ملهوفة: عُدتَ يا أكحل العينين؟ تمَّ الزواج وعادتْ العروس إلى صحّتها وجلبتْ صبياً ولكن الفرحة ما تمّتْ فقد أصابها مرض عضال، ماتت على أثره. كالعادة بدأ أهل الزوج الأرمل يحثّونه على الزواج ثانية لضرورة وجود امرأة ترعى الطفل إن لم يكن لترعى الأرمل نفسه. بين مَن أروه إيّاهنَّ كمرشّحات للزواج، أرملة لها بنت. قال: أنا عندي صبي وهي عندها بنت وسيأتينا ولد آخر وهكذا سيجتمع عندنا ثلاثة أشكال وهذا ما لا أفضّله بحال من الأحوال. بعد أيام جاء الأرمل وقال: رأيتُ في حلمي أنّي أسأل المرحومة زوجتي عن الصبي فأجابتْني: تركتُه عند أخت الأرملة أم البنت التي أروك إياها. هكذا طلب يد الأخت وتزوّجها وأنجبا وعاشا في أهدأ حال وأهنأ بال. لا يُمل منكم ولكن ها قد جاء الشباب وصار عليّ الذهاب. غدائي اليوم عند حماتي وسأتمشى على مهلي فهم في العادة يتغدّون متأخرين. جاء الملائكة وذهب الشياطين، مرحباً وخاطركم. أودعناكم وعن قريب نراكم.
الفصل الثامن
المشهد الثالث
تخرج ست تاء ويدخل رجل في مقتبل العمر.
سيّد ألف: صباح الخير بالست الوالدة.
ست ميم: أهلاً يا ابني! كيف التدريس؟
سيّد سين: قل ظهر الخير فالساعة تقارب الواحدة!
ست ميم: فنّانو آخر زمان يقلبون ليلهم نهاراً. ما أزال مزعوجة منكَ، منذ أن أهديتَ وحيد مغاربة أحد رسومك التي رسمتها قبل الحادث. هذه الرسوم يجب أن تبقى هنا في البيت. إنها من تراث العيلة.
سيّد سين: الإنسان ابن لحظته. لحظتها تأثرتُ كثيراً لأنه الفنّان الوحيد الذي زارني بعد إصابتي وتأثري هذا فجّر أريحيتي فأهديتُه تلك الرسمة.
ست ميم: غلطان! فنّانو حلب، لا إحساس ولا عقل ولا ذوق وأنا متأكدة أنه بعدما ذهب، ألقى الرسمة في الزبالة ومتأكدة أكثر من أنك إذا سألته عن الرسمة بعد شهر، سينكر وسيقول لك: لا أذكر! وسيضيف: تعرف نحن الفنانين فوضويون وسيضحك كالهبلان مثلما يضحك كل فنان. فهمنا أن الأريحية ضربتك. كان ممكناً أن تجود عليه بشيء آخر لا بأحلى رسمة عندك رسمة درويش في سوق البغايا. إذا تيسّر لي فسأطالبه بها ولكن لا فائدة فأنا على يقين من أنه مزّقها أو أهملها أو رماها مع أوراقه وقد يأتي يوم يقول فيه بأنه الذي رسمها.
سيّد ألف: خففي هجومك على أبي سمرا فلربما إهداؤه الرسمة إلى وحيد مغاربة أنقذها من الحريق الجنوني الذي قامت به زوجته وأطعمتْ النار كل ما أنتجه قبل أن يعرفها. هذه يسمونها قصدية لا واعية. تصرفات نظنّ أنها جاءت صدفة وبعدها نكتشف أنها مقصودة في اللاشعور وعلى كل حال، لا تزعلي ففي أقرب فرصة سأستفسر عن الدرويش في سوق البغايا وأعيد إليك رسمته أو نسخة عنها. اسمعي هذه القصة: تلميذ في السابعة رافق صديقه الراغب في شراء عصفور فتأخر في العودة إلى البيت وفي هذه الأثناء سحب أخوه مسدس أبيه وقتل أخوته الخمسة، بناتاً وصبياناً، وأمه وأباه وانتحر وما بقي حياً سوى الأخ الذي تأخر في العودة. إن تأخّره أنقذه من الموت. تأخره غلط وربما لو سلم الأب لكان عاقبه على تأخره ولكن هذا الغلط أدى إلى نتيجة إيجابية.
ست ميم: هذا كلام يرضيك. لا تغيّر الموضوع. سين عقله ناقص ويده فاروطية. كان علينا أن نمشي على رأي القاضي الشرعي ونعيّن له قيّماً يمنعه من التفريط بحقوقه.
سيّد ألف: لا تحيدي عن الحق! لسين الحق في تقرير مصيره لأنه قادر على اتّخاذ قرارته بنفسه وقد صار معه كما قال فريد الأطرش: مَعرفش إيه ذنبي، غير إني في حبي، أخلصت من قلبي. لقد أحب إنسانة فطلعتْ حيوانة. ظنّها فهيمة فإذا هي بهيمة. حسبها مخلصة وفية فإذا هي خائنة وحراميّة وحيّة وهذا أمر قد يحدث مع أيّ كان ومن كبر عقله، أخذ الجور على نفسه وترك الجمل بما حمل وأعاد بناء الأمل ولا يكفّ عن العمل. الناس آه من الناس! يدعون إلى الإخلاص فإذا أخلص أحد لاموه وينفّرون من الخيانة فإذا خان أحد مدحوه. سين مخلص لنفسه ولغيره ومع ذلك تذمّونه وامرأته خائنة لنفسها ولغيرها وتمدحونها وتقولون حلال على الشاطر. لقد ماتت الأحاسيس والمشاعر. اسمعي هذه القصة: شاب غني أحب فتاة فقيرة فأقام أبوه الدنيا وأقعدها على رأسه فاستأجر قاتلاً مأجوراً ليقتل أباه ولكن الرصاصة طاشتْ وقتلتْ صديق الأب الذي كان يمشي إلى جانبه فكمن الابن لأبيه وقتله برصاصة صائبة وذهب وملأ حقيبة بالدولارات والذهب وبما خفّ وزنه وغلا ثمنه وأخذ حبيبته في سيارته باتجاه تركيا وفي مخفر باب الهوى، أخبرتْ الحبيبة الضابط بحقيقة الأمر وادّعتْ بأن الحقيبة لها فاحتجزوا الحبيب وتابعتْ الحبيبة طريقها ولا على بالها وحلال على الشاطر. كيف لم يحتجزوها؟ هنا السؤال وجوابه المال. دفعتْ ومرقتْ من الحدود فليس هناك أي شيء ضدها. المشكلة في التربية. أنتم ربّيتمونا تربية صالحة فصار لحمنا صالحاً ليكون لقمة سائغة للطالحين. لقد جعلتمونا طوباويين في عالم من الملاعين والشياطين. إن الفضائل فضائل في عالم من الفاضلين ولكن الفضائل رذائل في عالم من الأرذال والأنذال. غلط أن نجامل ونقول للقبيح أنتَ جميل مراعاة لمشاعره وغلط أن نقابل الأشرار بالخير لنعلّمهم التسامح وغلط أن نتنازل عن حقوقنا لننشر الأريحية. التربية المثالية هي التربية الواقعية المبنية على العدل والحزم واللطف لقد لقّنتمونا مبادئ مثالية وأنموذجية فائقة الطبيعة بحيث جعلتمونا مركوبين طول العمر. ماذا قال و. إ حين قدّم سين في إحدى الأمسيات الأدبية ضمن نشاطات اتّحاد الكتّاب العرب في حلب؟ قال: أقدّم لكم مسيحاً جديداً. غلطان! سين ليس مسيحاً جديداً بل إنساناً جديداً. إنه إنسان يؤمن بوجوب توفير الأمان بكل أشكاله لكل الناس عن طريق العدالة فإن استعصى العدل تتدخّل المحبة لتعويض الأمان المفقود. ألا تسمعينه يردد دائماً: حسبي الحب بديلاً عن الحق ونِعمَ البديل؟ إنه يؤمن بالعلم والعمل وهنا المشكلة: غلط أن تؤمن بالعدل والمحبة والعلم والعمل في عالم يسوده الظلم والبغض والجهل والكسل. نحن تصلّبنا ويستحيل تقويم اعوجاجنا وسنبقى خرفاناً بين ذئاب.
ست ميم: ذكّرتني يا ابني بجريمة قتل الدكتور سين في إعزاز. امرأته الثانية تصغره بثلاثين عاماً عشقتْ بكره من امرأته الأولى واتّفقتْ مع أولاده الثلاثة ومن بينهم عشيقها أن يقتلوه ويأخذوا تنكات الذهب المكدّسة عنده ويهربوا إلى تركيا وكان عنده كلب يحرسه ورسمتْ هذه خطة تقوم أولاً على أن يقتلوا الكلب ثم تأخذ هي الذهب في سيارة وتسبقهم إلى تركيا ثم يقتلونه ويلحقونها ومن شدة دهائها أصرّت على أن يرشّوا بهارات قوية في البيت حتى يضللوا الكلاب البوليسية. ما الذي صار؟ قتلوا الكلب وأخذتْ المرأة الذهب وسافرتْ إلى تركيا واتّصلتْ من هناك بالشرطة السورية وأبلغتهم أن أولاد الدكتور سين قتلوا أباهم. نفدتْ مثل الشعرة من العجين وقُبض على الأولاد وحُكم عليهم بالإعدام. غلط أن نقول ليست هناك جريمة كاملة ولا حق ضائع. هناك جرائم كاملة وحقوق ضائعة والعالم منذ أن كان وسيبقى عالم أباطيل لا عالم حقائق. الواضح يا ولدي أن الناس يُعجَبون بالأشرار أكثر من الأخيار ويسمّون العاطل شاطراً والعاقل جدبة. شاب أحب فتاة وبعد فترة لاحظ أنها تلعب بذيلها وتعاشر غيره فتركها وعلق بأختها الصغرى ومع الوقت لعبتْ عين أمهما على الشاب وكانت أرملة حلوة وصبية وغنية ويوماً بعد يوم، صار الشاب عشيق البنت والأم وراح يبتزّ الأم حتى تنازلتْ له عن كل أملاكها. لا أفهم يا ابني كيف يتصرف بعض الناس تصرفات جنونية كهذه؟ الشاب بعد أن استولى على كل شيء، بدأ يبتعد قليلاً قليلاً عن الأم وفي يوم انفجر موقد الكاز بالأم واحترقتْ، ما ماتت ولكنها تشوّهتْ بشكل ما عاد يمكن النظر إليها من بشاعتها وكأن هذا الحريق أثّر على عقلها أيضاً فصارتْ غريبة الأطوار. الزمان كم يغيّر الإنسان! اتفقتْ الإبنة مع الشاب أن ينقلا الأم إلى الضيعة، هي من ضيعة قريبة من حلب، وهناك قتلاها بطريقة تبدو فيها الميتة وكأنها طبيعية ودفناها وعادا إلى حلب. تزوجا وخلّفا صبياناً وبنات ومع الوقت شمّتْ المرأة رائحة خيانة تفوح من زوجها وبدأتْ تراقبه وحين تأكدتْ من أنه يخونها، قتلتْه بنفس الطريقة التي قتلا بها أمها وتابعتْ حياتها وكأن شيئاً ما صار. ما انكشفتْ القصة إلاّ بعد حوالي عشرين عاماً، حين دبّ الخرف في رأس المرأة وبدأتْ تخربط في كلامها خربطة تفضح بعض أسرارها وظنّ الجميع أنها تخرّف فما أخذوا كلامها على محمل الجدّ لا بل قالوا فيما بينهم إذا كان ما تقوله حقيقة وقدرتْ أن تخفيه كل هذه السنين فحلال عليها. الناس معجبة بالذكاء التحايلي وأكثر من ذلك، الناس تفضِّل الفهلوية يعني أن تصل إلى غاياتك بوسائل شريرة دون أن تنكشف.
سيّد ألف: وأنا قادم من المدرسة، سمعتُ باعة الجرائد يصيحون: تعا شوف القتل أمو… انقلبتْ خلقتو وصار كلب يا خيّو. اشتريتُ جريدة وقرأتُ الخبر سريعاً. كان معي ابن فلان، قال لي: الخبر صحيح ولكن الحوادث المذكورة غير حقيقية. هذه امرأة ترمّلتْ وهي شابة ولأنها لا تجيد أي صنعة، صارت تشتغل تلك الشغلة لتربي ابنها الوحيد. الولد تربّى على رؤية أمه مبسوطة مع الزبائن فتخنّث وحين صار شاباً، عجزتْ أمه عن أن تعيد له فحولته. جمعته مع أحلى زميلاتها في الكار ولكنه أبى ورفض أن يجامعهن ومرة ضبطتْه مع رجل فهالها المشهد وراحتْ تدب الولاويل فما كان من الشاب إلاّ أن هجم على أمه وخنقها ثم انهال على جسده ضرباً حتى تغيرتْ ملامح وجهه وصار يشبه الكلاب وقد أودعوه في العصفورية لأنه فقد عقله كما يقولون: التربية لها أكبر أثر في حياة البشر ولكن ما تفعل إذا كان المربّي بحاجة إلى تربية؟
ست لام: التربية لها دور ولكن الانفجار السكاني الذي نشهده، يزيد الجاهلين جهلاً ويرفع وتيرة تقصير الأهالي على المستويين المادي والمعنوي. صبية زوّجوها وهي في الرابعة عشرة من عمرها وبعد أن أنجبتْ طفلها الأول، حلتْ في عين ابن عمها فطالب بها وظل يضغط عليها، هو ووالدها، عمه الكريم، حتى طلّقاها من زوجها لتتزوج فوراً من ابن عمها المصون. هذه جاهلة، تركتْ المدرسة وهي في الصف الثالث الابتدائي وحفظتْ من جدتها أن الدعاء حيلة المظلوم ولذلك صارتْ ليلاً ونهاراً، تقوم وتقعد وتدعو على أبيها وابن عمها وما هي إلاّ شهور حتى انجلط الأب وخلال أيام تلعبج ومات وترك أسرة من خمسة عشر ولداً أكبرهم ابنته بطلة القصة وبعد أيام من موته انفلج زوجها وظلّت أربع سنين ترعاه وتعتني به مثل طفل رضيع لأنَّ فالجه كان عميقاً، جعله مقعداً ومع أنه كان ليل نهار يدعو لها بالخير لأنها تُحسن معاملته رغم أنه كان يسيء معاملتها فإنها كانت تشعر بالذنب لأنها آمنتْ أنّ دعاءها هو الذي قتل أبيها وفلج زوجها. المهم بعد أربع سنوات، مات زوجها فطقّ عقلها وراحتْ تهيم على وجهها في الشوارع وتأكل من القمامات وتعظ الناس بأن يكفّوا عن الدعاء بالسوء لأن أبواب السماء مفتوحة دائماً وقد يستجاب دعاؤهم وهكذا يقضون عمرهم أسفاً وحسرةً وندماً وذات يوم رؤوها جثة هامدة في أحد الخرائب وبعد التشريح اتضح أنها اغتُصبتْ وخُنقتْ وبعد انتهاء التحرّيات اكتشفوا أن الفاعل رجل مجنون يدعى حَمَدْشو، ذهب عقله وصار فاقداً للشعور بعد أن اكتشف أن لزوجته عشيقاً فذبحهما وذبح أولاده الثلاثة الذين ادّعى بأنهم ليسوا منه بل من العشيق وقد حوكم وأُطلق سراحه لجنونه ويقال أنه أودع العصفورية فترة ثم خرج وراح يعيش في المقابر والخرائب ويقتات بما يجود عليه الخيّرون من أطعمة بائتة ومع الوقت صار الناس يعتبرونه ولياً ومن أصحاب الكرامات لذلك فوجئوا وذُهلوا ولم يصدّقوا أنه اغتصب وقتل امرأة مجنونة وما يزال الناس يعتقدون بأن الجاني شخص غير حمدشو وأن حمدشو بريء وقد ألصقوا به التهمة زوراً وبهتاناً وكان الحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت صدمة كبيرة، دفعتهم إلى أن يُقيموا لجثمانه ضريحاً ويبنوا فوقه قبّة ويُقيموا له مزاراً.
سيّد سين: الناس مولعون بتقديس العاطلين والعاطلات الذين يجنّون ويسوحون في الشوارع. إنهم يتعاطفون مع الأشرار لإيمانهم بأنهم ضحايا ويستحقّون كل محبة ورأفة. كأنّ البشر لا يقدرون أن يعيشوا دون أن يقدّسوا أحداً ما ودون أن يحسوا بأن الوقائع المثبتة ليست حقيقية وبأن عليهم أن ينفوا الحقائق التي يسمعونها ويُثبتوا الحقائق التي يظنونها أو يخترعونها.
سيّد ألف: يا سيدي معَك حق.
سيّد سين: سيدي وسيدك العقل ونحن من أتباعه.
سيّد ألف: كل الناس سمعوا بجريمة قتل أب وابنه وصانعيهما على يد أربعة أتراك. إذا أحصينا السيناريوهات التي فبركها الناس لاحتجنا إلى مجلد لكتابتها وإذا فرزنا المواقف من خلال ما جمعناه لوجدنا أن المتعاطفين مع القتلة أكثر من المتعاطفين مع الضحايا. تظل هناك أغلبية تؤمن أن للمجرمين أسباباً وجيهة دفعتهم للإجرام وأن علينا أن نأخذ بهذه الأسباب لنبرر أي فعل شائن كان. يقولون: أزل السبب يزل المسبَب يعني المجرم ليس من يُجرم بل المجرم هو الذي يدفع المجرم إلى الإجرام. كنت أظن أن ما يحكونه عن حكم قراقوش وقائع صحيحة ولكني أميل الآن إلى الاعتقاد بأنها من نسج خيال البشر. تذكرون قصة قراقوش، حين حكم بالإعدام على فتاة مارة في زقاق لأنه حمّلها جريمة إيقاع شاب من على السطوح وهو يتابعها بنظراته وفنّد قراقوش حكمه بقوله: لو لم تسلب لبّه بحسنها وغنجها لما وقع ومات.
ست لام: أنا معَك في ظنك هذا. اليوم حكت لنا مدرّسة العلوم، أن البارحة قامت القيامة في المنطقة التي تسكن فيها. فتاة مدّت رأسها من شبّاك بيتها بلا غطاء يستر شعرها فرآها ابن الجيران بالقَرعة، كما يقولون، فمضى وأخبر أخاها فطاش صواب الأخ وركض إلى البيت وذبح أخته. الأخت كان قد كُتب كتابها على شاب من حارة مجاورة منذ أسبوع فلما سمع عريسها بذبح عروسته، صعد الدم إلى رأسه وأخذ جفتاً وقوّس ابن حميه وهنا دخل الثأر في القضية. هجم هؤلاء على أولئك وانتهى الهجوم بتدخّل الشرطة ولكن بعد أن كان قد وقع عشر ضحايا من الطرفين. الناس أو فلنقل أغلب الناس ما صدّقوا أن كل هذه المجزرة وقعتْ بسبب إطلالة فتاة بالقَرعة من شبّاك بيتها وراحوا يفبركون قصصاً وحكايات على هواهم وأعجب ما فبركوه أنه كان على الأخ أن يقتل أمه وأخته معاً لأن ظهور البنت بالقرعة ناتج عن سوء تربية الأم لابنتها والأم ترمي السبب على الأب لأنه ما اشترى للعيلة بيتاً له كشك يسمح للبنت بأن ترى دون أن تُرى فمن حق البنت أيضاً أن ترى وجه ربها وأن تروّح عن نفسها بالتفرّج على المارة في الزقاق.
سيّد ألف: هذا الصراع بين المرأة والرجل صراع أزلي أبدي. الأم ترمي الذنب على الأب والأب يرميه على الأم وهكذا دواليك. إن أردتم الحق والحقيقة، المرأة أقوى من الرجل وهذا ما يجعل الرجال، ولا أقول كلهم، يضايدون نساءهم على الدوام يعني ليس على الدوام فالرجال أحياناً يسايرون نساءهم خوفاً من أن يقاطعنهم في الفراش. أنا أظل أؤمن أن جوهر الصراع بين الجنسين 999هو القدرة الجنسية. اسمعوا هذه القصة: زعيم قبيلة تزوج من زعيمة قبيلة ومرت سنتان دون أن تحبل فقالت له: قد يكون السبب مني وقد يكون منك والأفضل أن نتطلّق ليرى كل منا خلفته فقال لها: أنا راضٍ بالعيش معك دون خلفة وإن كنتِ تصرّين على الطلاق فإني أقبل شريطة أن أقطعه وأن تقطعيه، طبعاً واضح على أي شيء تعود هاء الضمير، فرضيتْ وقطعته له وقطعه لها. مرّت سنين وكانت زعيمة القبيلة المطلّقة قد تزوجت ثانية وأنجبتْ أولاداً وخطّبت إبنتها البكر ودعت زوجها السابق لحضور العرس وبينما كان الناس يدبكون غنّت: حوّل يا راعي الحوّا
شوف المقروم شو سوّى
تسعة خشّن بالدبكة
والعاشر لسّاتو جوّا.
فغنّى زوجها السابق: بإيدي أنا قصّيتو
وبتم الكلب حطّيتو
حسّبت خرَبتْ بيتو
تاريه عامر من جوّا.
من هذه القصة نستنتج جهل الرجال وغباءهم وعلم النساء وذكاءهن.
ست لام: يا حيف على الحب العذري. أعتقد أن الحب الجنسي سيفني الجنس البشري. اسمعوا ما حدث مع طالب في مدرستي. تعرفون أن الشباب المراهقين يتبجّحون باستعراض مغامراتهم الغرامية. طبعاً منها ما هو واقعي ومنها ما هو محض خيال واختلاق. أحد الطلاب كان يشعر بالنقص لعجزه عن القيام بأية مغامرة حتى ولو عاطفية وذات مرة سأله دون جوان الصف: وأنتَ أليس عندك غراميات؟ هذا وحتى لا يطلع بالخجلة، أجاب: أكيد عندي! وحين لم يصدقه، طلب برهاناً يثبت صدق ادّعائه فأخرج هذا من جيبه صورة أخته وأراه إياها. هنا ضحك الدون جوان وقال بسخرية: هذه! لي سنتان وأنا معها وأمس قضينا ظهيرة حمراء ولا في الأحلام. هنا فقد صاحبنا اتزانه وأخرج من جيبه موسىً كبّاساً وفتحه وأغمده في قلب الدون جوان فسقط صريعاً دون حراك وما اكتفى بهذا بل ذهب إلى أبيه وحكى له ما جرى فانتفض الأب وقال: إبنتي كذا وكذا وكيت وكيت؟ لا يغسل العار إلا الدم وهرع لساعته إلى البيت وذبح بناته الثلاث وهو يردد: صاتت واحدة يعني صات الكل وكالعادة علقتْ نار الثأر بين أهل الدون جوان القتيل وأهل الطالب الخائب القاتل وأيضاً ما انتهى الأمر إلا بتدخّل الشرطة بعد أن كان قد راح عشرون ضحية من الطرفين وحكت إحدى المدرّسات أن نفس القصة صارت بالعكس وبسيناريو مشابه تقريباً. طالبة أرت زميلاتها صورة أخيها على أنه حبيبها وصادف أن إحدى الطالبات الحاضرات على علاقة مع هذا الشاب منذ سنة فواعدته فور خروجهن من المدرسة وفي قبة سطح بيتها حيث اعتادا أن يختليا قالت له: اشتهيتُ لك أن تشرب فنجان القهوة هذا من يدي. شرب الشاب القهوة وتغارما ثم مضى وبعد ساعة أو بعض ساعة بدأ الشاب يشعر بدوار ثم خرجتْ زبّاداته من فمه ووقع ميتاً بلا حراك. لقد كانت القهوة مسمومة واعترفت الطالبة بجريمتها فحكموها وأودعوها سجن الأحداث. يعود حديثنا إلى الأخت فقد أحست بذنب عظيم بعد أن وجدت أن فعلها الطائش ذاك قد أدى إلى قتل أخيها وصارت أطوارها غريبة وشيئاً فشيئاً انقلب سلوكها وصارت تصرفاتها عدوانية ومرعبة إلى درجة أنها راحت تحاول الانتحار فأخذها أهلها إلى طبيب، أخبرهم بأنها تعاني من فصام حاد وبداية ذُهان ورغم أنها كانت تأخذ الدواء في مواعيده إلا أنهم صحوا يوماً فرؤوها جثة هامدة في فراشها.
سيّد ألف: غداؤكِ طيب ولكن أحاديثكم تُطبق الصدر. ما عاد هناك مجلس تنشرح فيه الصدور. مشاكل المدارس لا تنتهي. معلمون يضحكون على معلمات أو يحبون طالباتهم. طالبات يُحببن أساتذتهن أو يُحببن بعضهن وفي المدارس المختلطة قصص التلاميذ والتلميذات والجهاز التدريسي تفوق الخيال وقيسوا على ذلك في كل المؤسسات والمعامل والمصارف والجامعات والحارات…إلخ وكل هذا يتلخّص في كلمة واحدة: الكبت. الكبت العاطفي والكبت الجنسي والكبت الفكري، زيدوا على ذلك: الكبت النشاطي.
ست ميم: هذا خير من الإباحية. مشاكل وجرائم الكبت أهون من مشاكل وجرائم الإباحية.
ست لام:التطرف سوء تصرف والفضيلة وسط بين رذيلتين، إطلاق الحريات عن وعي ومسؤولية وسط بين الكبت والإباحية. لا توجد مجتمعات بلا سلبيات ولكن سلبيات المجتمع الجاهل أفظع من سلبيات المجتمع المتعلم. الفرد في المجتمع المكبوت يظل يكتئب ويقلق حتى يموت أما الفرد في المجتمع الحرّ يقدر أن يحقق دوافعه ولو في حدودها الدنيا ولذا يسعى إلى أن يحيا.
سيّد سين: صعب هضم محاضراتكم بعد وجبة غداء محترمة كهذه ولذا أستودعكم…
سيّد ألف: كلنا نستودع. جميعنا لنا مشاغلنا ومشاريعنا ونلتقي على العشاء.
الفصل الثامن
المشهد الرابع
يدق الباب. يذهب سيّد سين ويعود قائلاً: جاءت ج.ع. وتقول أنك وعدتها لتذهبا إلى أم العطايا.
ست ميم: استقبلها وتحدث معها ريثما أغيّر ملابسي.
الفصل التاسع
المشهد الأول
المكان: غرفة الاستقبال في البيت نفسه.
الزمان: بعد الظهر.
سيّد سين: أستغرب كيف أن واحدة مثلكِ جاوزتْ الستين وماتزال مثل ليرة الذهب، كيف لم تحبّ ولم تتزوج؟
ج.ع.:استغرابك في محلّه. كثيرون أحبّوني، حباً ليس مثل حب هذه الأيام، حب بالصدفة وعلى الطريق. كان الحب عن حق وحقيق. حب لا يروح إلاّ مع طلوع الروح. الحب الآن مثل محرمة ورقية، تمسح بها وترميها وتأخذ غيرها حالاً وعلبة وراء علبة وأنا أحببتُ واحداً وجننتُ به. كان يحب المغنى ويعزف على العود وحفظتُ كرمى لعينيه ثلاثة أو أربعة جنكات مواويل وعتابا. قال لأمي: أقنعيها وسأمشّيها على الذهب. قلت له: لا أريد أن أظلمَك معي. أحببتُه وما تزوجتُه وما أزال أحبه. قلتُ لكَ حبنا، حب أيام زمان، حب لا يموت، حب ينزل معنا إلى القبر وكله بالرضى وليس بالجبر. لي عقلي. أنا هكذا. الآن أعيش وحدي. أستقبل الكل وأزور الكل ولكن في آخر النهار أو آخر الليل، أفتح باب بيتي بيدي وأدخل وأحس بأني أملك الدنيا. الكل يحبونني وأحب الكل ولكني في بيتي، ملكة ذاتي، حرة حالي، أنا هكذا. يستقتلون عليّ لأسافر معهم في الرحلات، لأني أعمل جو. لا أحب الغم. ويل على الزعل وعلى ساعته! أحب البسط والكيف وأغني. ماذا تريد أن أغني لكَ؟ مواويل، ميجانا وعتابا، قدود، أم كلثوم، عبد الوهاب، هيفا وهبة، نانسي عجرم… الفن فن وكل عصر وله فنه والجديد لا يلغي القديم والقديم لا يغطي الجديد ويوقفه. تعال واسمعني في الكنيسة أصدح بالتراتيل. تحس أن السماء صارت على الأرض. لن نعيش إلى الأبد. يضرَب النكد وساعته. عروس كانت تجهزت وأمك لم تتجهز بعد. اللّه يساوى وأخيراً وصلت العروس. خلصتِ يامو؟ لا تطوّل بالَك بس أوعى لحالَك! أودعناكم.
الفصل التاسع
المشهد الثاني
تخرج ج.ع. وست ميم ويدخل رجل في العقد الخامس من عمره.
سيّد سين: أهلاً أبو الوح! ما آخر أخبارَك يا وحواح؟
أبو الوح: آخر أخباري؟ تعال اسمع! أنتَ يا نصير الحداثة والمدنية ومن أكبر الدعاة إلى الأجهزة الالكترونية. اسمع وتسمَّع وأنا متأكد في الآخر ستقنع بأن الحياة العصرية زبالة بزبالة.أتذكر ثلاثة شباب كانوا معنا في الجامعة، تعلموا من المصور جيم في بناية الشختورة أمام كنيسة مار ميخائيل… ماذا تعلموا؟ تعلموا أن يمنتجوا صوراً على صور. تأخذ رأس فتاة من صورتها وتضعه على صورة جسم امرأة عارية فتبدو الصورة وكأنها صورة الفتاة ولكن عارية الجسم. أتذكر الفضائح بالجملة والشكاوي لا تُحصى ولا تُعد وقمة النتائج أن أحدهم وهو أستاذ في الجامعة، راح يستعمل هذه الوسائل العصرية، لا تقرف! مع بعض طالباته لينجحهن… يعني يمنتج صورة الطالبة ويهددها بنشرها على الملأ، وهذه بالنحوي، إن لم تقبل أن تتغارم معه وقمة القمم أو ذروة القمم يا أديب يا أريب، أن طالبة اتفقتْ مع الشرطة الأخلاقية ومثّلتْ دورها بإتقان واعتُقل الأستاذ الكريم وحوكم ونام في السجن مدة ثمانية عشر عاماً؟ مثل هذه الألاعيب صارت ميسورة لكل شخص بوجود الكمبيوتر، فهل ستظل تدعو إلى العصرنة والعلمنة رغم كل ما تراه من تخريب للبشر وإفساد للأخلاق؟ تجارب القدماء أعطت دساتير أخلاقية إنسانية فيها حكمة، حرام أن نضيّعها. الثاني أمه خاصية. لا تتركه يتفلحص. ترسم حياته دقّة بدقّة وهو رضيان لأن سيطرة أمه عليه تنفي عنه كل مسؤولية. إنه متصالح مع ذاته وكلما جرى شيء ينافي الأعراف العامة يقول لأمه: أنتِ قلتِ لي اعمل كذا وأنا أعمل ما تأمريني به. هذا ذكاء اجتماعي. هذا ليس ذوباناً للشخصية. البنات تتهافت عليه لأنه سالم ومسالم ومستسلم ومن اختار منهن؟ تفضل جاوب يا أصمعي يا ألمعي! اختار أقواهن شخصية. اختار زميلة له، متكبرة، متجبرة، متسيِّدة، مقيِّدة ولماذا؟ قل! هات استنتاجاتَك يا صاحب العقل! اختارها قوية حتى يرفع عنه المسؤولية. أنا أعطيك أحداث واقعية. غيره، شخص فهيم، عظيم ولكن متسلط، متجمِّد، متصلِّب، لا يرضى إلا أن يمشّي كل شي على رأيه. كلمة المرونة غير موجودة في قاموس حياته. هذا غباء اجتماعي. إنه غبي حتى ولو كان نبي. وغباؤه أدى به إلى الطلاق. ما الأفضل أن تساير وتعيش سعيداً أم أن تسيِّر وتعيش تعيساً؟ أراكَ لا تجيب. الملعنة الطيبة خير من الجدبنة. اسمع وتسمَّع. الثالث، أحب إبنة جيرانه وصار يضع سلّماً، يتسلقه ويقفز منه إلى غرفتها وهناك يقضيان أوقاتاً حمراء وخضراء و(سكوب بالألوان) وانتظر الآن (السينيراما) ضبط أبو البنت والواقع ما كان أباها بل مربّيها لأنها بنت لقيطة يقال أن أمها كانت أرتيست في إحدى الكباريهات، حبلتْ بالغلط ورمت إبنتها بعد أن ولدتها أمام أحد أديرة الراهبات فأعطوها إلى زوجين محرومين من الذرية ليربياها. المهم ضبط الأب الأسمي روميو السلالم الهيمان فاعترف بحبه للبنت وقال للأب: الأمر محلول. أتزوجها وتنتهي المشكلة وهكذا تزوج البنت التي نكراها مربياها فيما بعد نكراناً مطلقاً وما عادا يسلّمان عليها حتى. روميو السلالم هذا، لا يقدر أن يعاشر إمرأة واحدة فقط فهو من أتباع التعددية الغرامية وبعد أن صار له صبي وبنت، عشق فتاةً من دين آخر وصاحبها فوق زوجته واضطر إلى تغيير دينه والزواج منها حين حبلتْ ومع الوقت انطفأ غضب زوجته الأولى عليه وعاد إلى معاشرتها ومايزال، رغم زوجتيه هويواتياً لا تسلم امرأة من شرّه. اللوّاص في الحب لوّاص في العمل ولن أحكي لكَ ما آلت إليه أموره الوظيفية لأنها قصة طويلة، انتهت بكفّ اليد وما يستتبع ذلك من إجراءات قانونية. الملعنة كيّسة إن كانت طيبة أما إذا صارت ملعنة خبيثة فإنها تصبح خسيسة وعن الخسّة، حدّث ولا حرج. انتهى عصر الكياسة وبدأ عصر الخساسة ولماذا أناقض نفسي؟ الدنيا كانت وماتزال وستبقى دنيا خسيسة. م. فكّت خطيبها ع. ألف قلبة ولا غلبة ولكن الأمر هنا يتعلّق بمهندسة ودكتور، مضى على حبهما وخطبتهما خمس سنوات. أهل الخطيب يبخسون أشياء غيرهم. صادف الخطيب فرصة في أحد المحلات تقول: اشتروا صندلين وادفعوا ثمن صندل واحد فاغتنم الفرصة واشترى صندلاً له وآخر لخطيبته وقامت قيامة عيلته عليه حين أخبرهم بما فعل وعرض عليهم الصندلين. اتهموه بالغباء ولمّحوا إلى أن الخطأ الأكبر يقع على خطيبته التي كان يجب أن توعّيه على اللعبة المكشوفة وأصرّوا على أنهم مستعدون لشراء نفس الصندلين الآن بربع الثمن الذي دفعه. اسألني هل كل أهل الخطيب يستخفّون بقيم غيرهم؟ نعم! كلهم، رجالاً ونسواناً، شيباً وشبّاناً. اسمع وتسمّع هذا الفصل الثاني: أصرّت أم الخطيب أن تدعو أهلها يوم إثنين الصوم على كبة زنكلية وطبعاً دعت خطيبة إبنها وهي تعلم علم اليقين أن الخطيبة تعاني من مشاكل معوية وقد منعها الطبيب من أكل المقالي. جاءت العمّات والخالات والأعمام والأخوال والأخوة والأخوات وعائلاتهم يعني كما يقولون جاءت العشيرة كبيرها وصغيرها وهاتي يا أم الخطيب قرّصي واقلي ووزّعي وبالكاد حصلتْ الخطيبة على قرصي كبة بحجم عين الجمل. طيّب! أما كان من الواجب على أم الخطيب أن تحضّر طبخة إن لم نقل طبخات مع الكبة الزنكلية؟ أنا لا أطلب منها أن تراعي صحة خطيبة إبنها ولكن الكبة الزنكلية لا يمكن أن تُشبع قبيلة كبيرة كهذه. المهم أن الخطيبة كانت تبلع الفصول الناقصة فصلاً بعد فصل دون أن تنبس ببنت شفة وفي يوم استدعى أحد الجراحين الدكتور الخطيب ليعاونه في إحدى العمليات وبعد أن عاد مع خطيبته طبعاً، سألته أمه: كم أعطاكَ الدكتور لقاء مشاركتكَ في العملية؟ أجابها: خمسمئة ورقة كالعادة فنطّت الأم وما حطّت وراحت تبهدل إبنها بهدلة تغسيل وتمشيط وتلومه كيف يقبل بهذا الأجر الزهيد وأصرّت على أن تخابر الدكتور الجرّاح وتشرشحه على الهاتف: يا صفتَك، يا نعتَك، يا مستغلّ الناس، يا أكّال حقوق البشر… إلخ والنتيجة قطعتْ رزق إبنها وما عاد أحد من الجراحين يطلب مساعدته خوفاً من سلاطة لسان أمه. نترك المهم ونروح إلى الأهم. في جلسة ضمّت الخطيب والخطيبة وأصدقاءهما من شباب وصبايا، راحوا يتناقشون حول مواضيع متعددة حتى وصلوا إلى موضوع الانفتاح وهنا انقسم الحوار إلى طرفين: طرف يقوده الخطيب وطرف يقوده أحد أصدقائه فاتفقوا على أن يأخذوا آراء الحاضرين وكان رأي الخطيبة مع الجهة المعاكسة لخطيبها. اغتاظ الخطيب ولكنه بلعها وحين انتهت السهرة، راح يكيل لها العتاب واللوم، طوال الطريق من المطعم إلى بيتها واتّهمها بأنها لا تحبه ولا تحترمه ولو أنها تحمل له ذرّة من الاعتبار لوقفتْ إلى جانبه أمام الآخرين وإن كان رأيها معاكساً لرأيه فيجب أن توافقه علناً وتخالفه سراً وهما وحدهما. الحاصل انتهى الأمر بالانفكاك وعلى عكس أولئك، فكّ إبن ألف المهندس بنت ميم المهندسة بعد ثلاثة أعوام من الخطبة. هنا الخطيبة تصادر الخطيب مصادرة تامة وتأمره أن ينفّذ الوصية المقدسة بأن يترك الرجل أباه وأمه ويدبق بإمرأته بحيث ينفصل عن أهله انفصالاً شاملاً كاملاً ويرتبط بخطيبته وأسرتها ارتباطاً جامعاً مانعاً وادّعت أنه غير مفطوم نفسياً بعد ومن واجبها أن تفطمه عن أمه المتسلطة وأبيه اللامبالي وأخوته الأنانيين وأن الكلمة ستبقى كلمتها إلى أن تتأكد من أن شخصيته قد نضجتْ وصار شاباً مستقلاً يليق بفتاة مستقلة مثلها والمحصّلة أن الأمر انتهى بالانفكاك. نصل إلى الفصل الذي بعده. فكّت بنت قاف إبن عين. هذان يحبّان بعضهما حباً حتى العظم ويضعان القرش فوق القرش ليجمعا ثمن بيت الزوجية المستقبلي وفجأة عنّ على بال الخطيب أن يشارك في رحلة جماعية ذاهبة إلى باريس للقاء الشباب العالمي مع البابا. الخطيبة استغربتْ هذا الأمر ورأت فيه خيانة وخروجاً عن الاتّفاق الاقتصادي الذي قرّراه لجمع ثمن البيت وهكذا انتهى الأمر بالانفكاك. نسيتُ أن أخبرَك أن كل عيلة من عيلات الخطباء راحوا يقوّرون صورة الخطيبة من الصور المشتركة ويرمونها في الزبالة وكل عيلة من عيلات الخطيبات يفعلون الشيء ذاته وأين صارت المشكلة؟ المشكلة في أفلام الفيديو والأفلام الإلكترونية التي لا يمكن تقويرها. نعود إلى المشاكل العصرية. الزواج في هذا العصر صار نبعاً للمشاكل ورغم أني ضد العصرنة والعلمنة فإني مع فكرة المصاحبة والمساكنة. هذا أنا أمامَك تجاوزتُ الخمسين وما أزال عازباً وحياتي خالية من المشاكل مع إني أصاحب وأساكن إناثاً متنوعات ومتعددات من مختلف المذاهب والمشارب.ما حدث أبداً حتى الآن أني خصصتُ نفسي لواحدة بعينها ولا خصصتُ واحدة بعينها لي حصراً. إن مبدأ كل الرجال لكل النساء بالاتفاق لا بالغصب يرفع عن كاهل الإنسان في كل زمان ومكان مشاكل كثيرة وكبيرة وهذا أخي أمامك، إنه يفكر عكس تفكيري تماماً ويعتبر أن الزواج خير وسيلة للقاء الجنسين ولكنه قارب الخمسين دون أن يجد نصفه الآخر ويعيش متعففاً متبتّلاً أكثر من الرهبان. أنا أرى أنه هدر ويهدر شبابه وهو يرى أني هدرتُ وأهدر شبابي. لا يوجد أخّين بعقل واحد فكيف نجد ذكراً وأنثى غريبين بنفس العقل؟حلب مدينة تَتَقَرْيَن وشعبها يتهمجن وهات عمر الى أن يتمدّن الحلبيون الجدد. حكو لي هذه الحكاية فاسمعها: ملك تزوج متسولة وراح يقدّم لها أفخم أنواع المآكل وأفخر أصناف المشارب ولكنها كانت تعاف ما يقدّم لها وتقول: يا حيف على المخَلّط.كاد الملك أن يجن وسأل طبّاخ القصر: أتعرف أكلة أسمها المخَلّط؟ فأجابه: ما سمعت بها قط يا مولاي. ذهب الملك وسأل الشحّادة الملكة: ما هو المخلّط؟ أجابت: خذ قفّةً أو دلواً واتبعني. أخذ الملك دلواً والشحادة دلواً وراحا يدقّان الأبواب ويتسوّلان الطعام ويضعان في الدلو ما يتيسّر من فضلات، الفضلة فوق الفضلة، عندما امتلأ الدلوان، عادا الى القصر وقالت الشحادة للملك: إغرف وتلذّذ بأطايب المخلّط. المجتمع الحلبي الآن مخَلّط وهذا التخليط، هذه الخمامات تغطّي وغطّت على عراقة الذوّاقة الدون تصدّر والأوج انحدر .نامت المنابر وقامت المزابل. راحت المراجل وجاءت المرازل .حلب كانت مرآة و صارت مخراة، لا يعلوها غير البراز الطافي. لسان حالك يقول أني ميلودرامي.صارت الميلودراما سيدة العروض. ما عاد شيء يسرّ الفؤاد. مات الوداد. فلنسلِّ الهمّ بصب الدمّ. ولد يتيم طلب من أمه بيضاً مقليّاً. الأم فقيرة معدَمة ما معها ثمن الغاز والماء والكهرباء فقالت لإبنها: غداً تكبر وتشتغل وتجلب مالاً فنشتري بيضاً ونقليه ونأكل. في الطابق العلوي تسكن إمرأة ثرية ثراءً فاحشاً وعندها ابنةً وحيدةً، المرأة كسولة تنبلة، كل يوم تقلي بيضاً لإبنتها في هذا اليوم،جلبت مقلاة البيض المقلي لإبنتها لتتغدى. من كسلها تقدّم الأكل في المقالي و الطناجر حتى توفّر جلوتها .ما إن رأت الإبنة مقلاة البيض حتى هاجت وماجت وفتحت الباب وطوّحت بالمقلاة في الهواء. طارت المقلاة وارتطمت بالحائط المقابل وانعكست وهوت على باب الجارة الفقيرة وأستقرّت أمامه سمع الولد صوت الطرقة فهرع وفتح الباب وكاد يغمى عليه من الفرح حين رأى مقلاةً عامرةً بالبيض المقلي الساخن فصاح: ماما، السماء تمطّر بيضاً.حين رأت الأم حقيقة ما يقوله ابنها ،ركعت على الأرض وصدحت بالأدعية والصلوات، شكراً للباري تعالى على معجزته هذه. انظر كيف يفسّر البشر الأفعال البشرية بأسباب إلهيّة. العقل الواقعي يوصل إلى المطلوب. ملك حشر كل طالبي يد إبنته في قاعة وأغلق الشبابيك والأبواب وأشعل حطباً رطباً فبدأ الدخان يملأ القاعة. قال الخاطبون لبعضهم البعض: هذا اختبار تحمّل، يجريه الملك علينا ومن يصمد حتى النهاية يتزوّج الأميرة، ظل الجميع رابصين إلا شاباً واحداً فتح الباب وخرج فناداه الملك وقال له: كم أنت قليل التحمّل! أجاب الشاب: وما ينفع إبنتك عريس مات اختناقاً؟ ضحك الملك وقال: مبروك أنت ستصبح صهري، انظر العقل الواقعي كم ينفع! العقل الواقعي عقل عملي. قارن بين عقل ذاك الشاب وعقل هذا الفتى الشاب الخيالي: أمير وحيد أبويه، أعدّه أبوه الملك أكمل وأشمل إعداد ليستلم المملكة من بعده ولكن صاحبنا الأمير فتح باب القصر بعد عرسه مباشرةً ورحل دون أن يدخل على عروسه حتّى. راح يبحث عن الحقيقة واصطحب معه كرّاساً كبيراً، أخذ يكتب فيه كل ما يجري معه. مضت عشر سنوات. عاد بعدها الأمير وقد تغيّرتْ هيئته من هيئة أمير إلى هيئة فقير ودقّ باب القصر وطلب أن يقابل الملك بالذات طبعاً طرده حراس القصر ولكنهم وبعد طول إلحاح، نقلوا طلبه إلى الملك فأذن له بالدخول وقابله وسأله: ماذا تريد يا هذا؟ فأجاب: بحقّ إبنك الغائب أرجو أن تسمح لي بقضاء بقيّة عمري في أحقر ركن من زريبة القصر. قال الملك: لأنك إستحلفتني بإبني الغائب فقد لبّيتُ طلبك وسأفرد لك غرفة في حديقة القصر وسأطعمك من وجباتي الخاصة. سكن الأمير في الغرفة وراح يقتات بما يحضره له الخدم وهؤلاء الخدم كانوا يأكلون وجبته الملكية ويطعمونه من الفضلات. يوماً بعد يوم مرض الأمير ومات وهو يحتضن كرّاس عمره. حاول الخدم أن يأخذوا الكرّاس من بين يديه ولكن دون جدوى فأخبروا الملك بذلك. نزل الملك وسحب الكرّاس من بين يدي الشاب أمام دهشة الخدم وحمله وصعد إلى غرفته وفتحه وبدأ يقرأ، كانت كل فقرة تبدأ بجملة: آه أيها الصابر! بعد عدة فقرات إنتبه الملك إلى أن هذا الفقير الزري ليس سوى الأمير البهي وتابع القراءة وحين انتهى من الاطّلاع على سيرة وحيده أغلق الكرّاس وأعدم الخدم الخونة وأمر بإعداد مراسيم دفن أمير البلاد وقال في تأبينه لفلذة كبده: يا بني لقد اخترت أن تعاني لمعرفة الحقيقة وها أنت ذا قد عانيت فأيّ حقيقة اكتشفت؟ وجعلتنا أنا ووالدتك وزوجتك نعاني مرارة فقدك وأنت غائب. تعلّمت الصبر ولم تعلّمنا حتى الأمل. أكنت تريد أن تعلّم الناس الإخلاص؟ وهاهم من كانوا من المفترض أن يكونوا خدمك لم يخلصوا لك فأهملوك في مرضك وخانوا ملكهم. ماذا استفدت ممّا فعلت؟ أكنت تريد أن تغيّر العالم؟ وها أنت قد تغيّرتَ وما غيّرتَ شيئاً. دفنوا الامير وظلّت الحياة تسير وكل ما جرى أن الملك المفجوع بإبنه المخلوع، لا تؤاخذني على هذه الكلمة شنّ حملة ضد الظلم والظالمين والفساد والفاسدين حتى صارت مملكته مضرب المثل في العدالة ولكن ما نفع كل هذا وليس له ولد يخلفه من بعده؟ البحث الخيالي مضيعة للوقت وبالتالي للعمر.
سيّد سين: الواقع يجبرنا على الخيال…
صوت دّق على الباب
أبو الوح: آن أوان الذهاب فإلى اللقاء يا شيخ الشباب. لا تقم من محلّك. أنا سأستقبل القادم ومن إبتسامتك يظهر أنّها قادمة وليست قادم. هنيئاً لك بالزيارة والزائرة. سأفتح لها وأنصرف.
سيّد سين: تعرف أن نجمك محبوب وحضورك مرغوب ومئة سلامة مادامت يداك ملآنة.
الفصل التاسع
المشهد الثالث
المكان: نفس الغرفة.
تدخل فتاة محجّبة الوجه.
آنسة ميم: مرحباً! اسمي م. د. أعطاني مدير إذاعة حلب عنوانك وقال إني أستطيع أن أزورك أي يوم كان بعد الظهر. أنا ثقيلة الدم وأرجو أن تتحمّلني.
سيّد سين: أهلاً وسهلاً بكِ وبدمّكِ الثقيل.
آنسة ميم: سأدخل فوراً في الموضوع. أنا وجه نحس. خطبني شاب يطيّر العقل، يدرس ويعمل. كنّا نلتقي في الجامعة. أنا طالبة ثانوي ولكنّه طالب جامعي. كان يصرّ أن نلتقي في الجامعة حتّى يتباها بي أمام زملائه. وجهي جذّاب وكسمي رغم البالطو الأسود يلفت الأنظار. قضيتُ معه أيّاماً وليالي من كل الألوان. اشترى لي بيتاً وجهّزه أفضل من بيوت الأميركان التي نراها في الأفلام والمسلسلات. كان أهله ميسوري الحال وكان وحيدهم ويريدون أن يفرحوا به ويروا خلفته. يوم كتب الكتاب، مات في حادث سيّارة. ظللتُ ثلاثة أيّام في غيبوبة حين سمعتُ الخبر. بعد أن صحوتُ، قضيتُ شهراً وأنا لستُ على بعضي. بعد ثلاثة شهور، عدتُ الى طبيعتي وكأنّي كنتُ في دنيا غير هذه الدنيا. تصبرتُ ولكني كفرتُ. كان خطيبي مؤمناً الى حد التعصّب والتزمّت والتشدد وما رضي عقلي أن يقبل بأن الله يقتل شاباً مؤمناً مثل خطيبي. زاد في كفراني أن أهل خطيبي رموا عليّ سبب موته وقالوا إن وجهي النحس سبّب مقتله. زاد في كفراني أكتر وأكتر، تجنّب الناس لي واعتباري ليس فقط وجه نحس بل قدم شؤم أيضاً. ما عاد أحد يستقبلني، وشيئاً فشيئاً ما عاد أحد يسلّم عليّ أو ينظر الى وجهي. وزاد عليّ الضغط موقف أبي الذي أجبرني على أن لا أكتفي بتغطية شعري بل أن أغطّي وجهي أيضاً. وأقسم أنه شخصيّاً بات يتشاءم من وجهي. لو ترى وجهي الآن تستغرب. طلعتي لا تقرف مليئة بزؤان أسود يترك في بشرتي حفراً مثل فوهات البراكين. تركتُ الثانوية لأن رفيقاتي وصديقاتي أفردوني كالبعير الأجرب. سأقدّم امتحانات الثانوية العامة هذه السنة ولا أضمن نجاحي لأني بعيدة عن منابع العلم، أقصد المعاهد والمدارس، كما إني بعيدة عن القدرة على التعلّم. فذهني دائماً شارد. أختي مصدر قلق دائم لي. كلّما حبلتْ أصابها جنون الحبل وكلّما ولدتْ أصابها جنون ما بعد الولادة. مات لها ولدان وبقي لها ولدان، أحدهما شبه معاق ومع ذلك تظل تصرّ على الحبل. اليوم هي في المشفى تعاني آلام المخاض. خبّرونا أنها مهدّدة بالموت مع الذي في بطنها وأنا قلقة لأنها إذا ماتت فسأبتلي أنا بتربية ولديها علاوة على أنهم سيرمون السبب على وجهي النحس وقدمي الشؤم. حماكَ الحامي من نحس وجهي وشؤم قدمي. زوج أختي يطاردني منذ أن خطب أختي. لا تكاد تقع عينه علي حتّى يراودني عن نفسي.آخر ما قاله لي: إن استنحسوكِ وبقيتِ بلا زواج فسأنقلك الى دمشق وأفتح لكِ بيتاً هناك وأعاشركِ كزوجة ولا تهتمّي بشأن أولادنا فسأتدبر الأمر. مضى أكثر من عام على وفات خطيبي. ولم يتقدّم لخطبتي أحد ولا أظن أحداً سيتقدّم. تعرّفتُ على عدّة شبّان من جيلي وأكبر منّي وأصغر. كلّهم عرضوا ويعرضون الجنس العذري. بعضهم تجاسر وطلب الجنس الخلفي. يقولون: بعد أن شاع صيت وجهك النحس لم يتزوجك أحد، فلماذا تترهبنين؟ لا رهبانية في الإسلام. أنا لا أعرف النشوة الجنسية. جرّبت كل الوسائل الفردية. وحاولتُ مع خطيبي ولكن عبثاً ودون جدوى. هل يمكن أن تعيرني كتباً تفيدني بهذا الموضوع؟ وهل يمكن أن أتردّد عليك بصحبة من يتعرفون عليّ لتعطيني رأيك فيهم؟ وليعلموا أنك تحميني فلا يتجاوزون حدودهم معي؟
سيّد سين: هل سبق أن سمعتِ عن فتاة غيرك أو شاب اعتبره من حولك وجه نحس أو قدم شؤم؟
آنسة ميم: خرافة وجهي النحس وقدمي الشؤم سائدة في مجتمعنا وكثيرون وكثيرات، معتبرون ومعتبرات وجوه نحس وأقدام شؤم ولكنّي ما عايشتُ ولا سمعتُ أبداً أحداً عُومل مثلما يعاملوني. إنّهم يؤمنون بأن الرُقى والتعاويذ الدينية تقلب النحس الى سعد والشؤم الى خير. ولكنّي قبل أن أكفر ما كنت أؤمن بالمشايخ فكيف بعدما كفرت؟
سيّد سين: وهل بين مَن حولك مَن لا تصل الى النشوة الجنسية مثلك؟
آنسة ميم: كل من سألتهنّ يعرفنها. بعضهن إكتشفنها بالصدفة وبعضهن تعلّمنها من غيرهنّ. أنا الحوبة الوحيدة في هذا الموضوع.
صوت دقّ على الباب.
آنسة ميم: لا تتعذّب أنا سأذهب وأفتح.
الفصل التاسع
المشهد الرابع
تذهب وترجع بصحبة امرأتين محجّبتين.
ست نون: تعرف أنّي استغلالية.جئتُ ومعي إحدى جاراتي لأستغلّك في موضوع أدبي. أنا ما أزال في بيت أخي المسافر الى الخليج. أسكن وحدي ومن لها بيت لوحدها لها ربّة لوحدها. ما أزال لا معلّقة ولا مطلّقة. أولادي وزّعهم زوجي المنظوم على أخواته وعاد وتزوّج. المفاوضات جارية بيني وبينه لإقامة دعوى الطلاق. قوانيننا كلّها تستغلّ المرأة لصالح الرجل ولكن لا يهمّني طالما سأخلص من هذا الزوج في النهاية. تصوّر أنه يرسل لي كبسات أخلاقيّة ليكمشني في أيّ تُهمة مشبوهة ويُسجنني ولكنّي صاحية. القوانين الظالمة تعلّمنا الحرص والحيطة وتعلّمنا أيضاً التحايل لإيجاد الوسائل التي تمكننا من تجاوز القانون دون مسؤولية. المهم أنا ماشي حالي ولكن جارتي حالها شاحط. تفضلي ودون مقدّمات في الموضوع ادخلي. هيّا يا ست واو.
آنسة ميم: أهناك حرج في بقائي؟
ست واو: لا لا حرج. مافي قصّتي أسرار بل فيها أشعار وإصرار.
آنسة ميم: أنا في الشعر طلطميس. أحبّ العلماء لا الشعراء. على كلّ سأبقى وحين أضجر أمشي.
ست واو: قصّتي بإختصار، زوّجوني وأنا في الثانية عشرة وأنا الآن في العشرين ولي خمسة أولاد.فجأة شعرتُ بأني عبدة، عبدة وبهيمة ولذلك تركتُ بيت زوجي ولا أقول بيتي لأن زوجي يصرّ على أنّه بيته وعلى أنّي خادمة له ولأولاده ولبيته. أنا الآن في بيت أبي ولن أبقى فيه طويلاً، لأن أبي يُخيّرني بين أن أرجع لبيت زوجي أو أنقلع من بيته ودرب السد ما ردّ. جلبتُ من عند أختي كتب الشهادة الإعدادية وبدأت أدرس لأحسّن أحوالي. أبحث عن عمل لأستقل ماديّاً ومعيشياً وحياتياً. أكتب منذ أن كان عمري عشر سنوات وعندي كدسات أشعار وكتبتُ مسلسلاً وأجتهد الآن لأكتب رواية.
رنين موبايل. ست واو تُغمغم ببعض كلمات على الهاتف وتُعاود الحديث.
يريدوني أن أحضن إبني الرضيع وعمره تسعة شهور ولكن هيهات. ما عاد لي أولاد. أنا أرفض أمومتي لهم وبنوّتهم لي. فليُحضر أبوه مرضعة له، مُرضعة مأجورة، حتى يعلم كم وفّرتُ له من أموال بإرضاع خمسة أطفال. آه الرجال عبيد الأموال. كل ما أريده منكَ أن تسمع بعض كتاباتي وتعطيني رأيك مهما كان رأيك، أنا سأستمر في الكتابة.
آنسة ميم: أكيد كنتِ سعيدة في حياتك الزوجيّة حتى جلبتِ خمسة أولاد. إذ غير معقول أن تجلبي خمسة أولاد دون أن تشعري بنشوة جنسيّة.
ست نون: النشوة الجنسية الأنثوية في زيجاتنا عمل فردي وجهد شخصي ونشاط ذاتي. رجالنا حنفيّات، صنابير، كم كنتُ أضحك وأنا في الإبتدائي على كلمة صنابير وعلى كلمة صنبور وما أزال أضحك وقد جاوزت الثلاثين بقليل على صنبور وعلاقتها بالزنبور. لا علاقة لها فيها على الإطلاق هاهاها.
ست واو: النشوة الجنسية الأنثوية غير موجودة في قواميسنا الرجولية. لا نشوة للأنثى سوى نشوة الحبل والولادة والإرضاع والتربية والرعاية والعناية وشغل البيت. من جملة ما قالته لي أمي في مرحلة الإستعداد للزواج: شغلتك إعمليها بيدك. إياكِ أن تطلع منّك آهة بسط مع رجلك. بعدها سيقول أنكِ فاجرة وعندك إستعداد للعطل. أظهري فقط أنّك تقومين بهذه الشغلة فقط لتحبلي. لذّتنا في الحبل لا في عمليّة التحبيل.
آنسة ميم: تُرى هل جاء ذكر النشوة الجنسية في الكتب الدينية؟
ست نون: أرجوكِ دعينا من الروحانيات وما فيها من خرافات. يكفينا ما تطالعنا به محطّات المشايخ.
الفصل التاسع
المشهد الخامس
صوت دقّ على الباب.
تذهب آنسة ميم وتفتح وتعود ومعها امرأة محجّبة الوجه وصبيّة مقمّطة الشعر ورجل يمشي بصعوبة.
ست حاء: إلتقينا على الباب أنا والآنسة ومعها سيّد.
آنسة هاء: أنا هاء الشاعرة. أتذكرني؟ جئتُ ومعي قريبٌ لي شاعر. يريد أن يستشيرك في شعره.
ست حاء: صار الشعر أكثر من البعر. أنا إبنة الشاعر م. ب. ورثتُ عنه الشعر وبإعترافه تفوّقتُ عليه. زارك زوجي المهبول من فترة. أتذكر؟ وأنا خابرتك في الهاتف عدّة مرّات. شعري يجب أن يُغنّى. يسّر لي لقاءً مع أهل الموسيقا والغناء وأنا أغزوهم وأجعلهم يلحّنون ويُغنّون أشعاري صاغرين. إيه! حلمتُ بشاعرٍ يُحبني، شاعر يجنّ بي، شاعر مثل شارل الخوري الذي جُنّ بليلى الحلبية. هيهات! وحلمتُ بأن أجنّ بشاب حلبي وأكتب فيه الأشعار مثلما جنّتْ رابعة العدويّة بالله ولكنّه سبحانه ما أوقعني سوى مع هذا المسطول زوجي. إنه يتعالج عند سبعة أطباء: نفساني وعقلاني وجنساني وعصبي وبطيخ إمبسمر وسيداوي لا تداوي، يبقى زيّ الخرقة ويظل مثل السلّ، مثل الشلّ بلا خِلّ. يجب أن تصل أشعاري مغنّاة الى القارات الخمس. أهل زوجي يعتقدون أن نجمتي رديّة وأنّي كبستُ زوجي فأسقمته وأمرضته بوجهي الأنحس من النحس.
سيّد سين: هاكِ يا آنسة ميم صنوة لكِ، شبيهتُك ومثيلتُك في الآفة. تُرى من منكما وجهها أنحس من الثانية؟
آنسة ميم: أكيد أنا. وجهي النحس قتل خطيبي. أمّا وجهها..
سيّدة حاء تقاطعها: ألا ليت وجهي ينحس زوجي الى درجة أن يقتل ويموت وأنتهي منه.
قلّ لي: ألم يقل لكَ بأنّي مجنونة وبي مسّ من الشيطان؟ يا ريت يركبني جنّي، يركبني إبليس، بس أخلص من هالخسيس. تصوّروا شاعرة تعيش مع زوج بلا مشاعر. أنا ماء وهو صوّان وحين أصير صوّانة وأقدح ينقلب الى بوظ وتلج مجمّد. هذا دفتر أشعاري. قلّ لأحد أن يقرأه عليك وعليك أن تحكم وأكيد ستحكم وبالعشرة ستبصم أن شعري يستحقّ أن يُغنّى. لا تذكر أمام أحد أنّي زرتُك. أخاف من الناس ولا أخاف من الله. الله غير أكيد موجود أم غير موجود أمّا الناس فيا ويلاه. استروا ما رأيتم منّي يا جماعة. أنا بإنتظار رأيك على الهاتف. علّم لي فأحاكيك.
تخرج ويبقى الباقون مندهشين.
الفصل التاسع
المشهد السادس

آنسة هاء: أجروا معي عدّة لقاءات إذاعيّة وصحفيّة وتلفزيونيّة وقد ذكرتُ أنّك أستاذي ولي الفخر. سجّلتُ أشعاري في وزارة الثقافة بدمشق حتى أحفظ حقوقي. اتّعظتُ بحديث الآنسة شين، الشاعرة التي كانت عندك حين زرتُك في المرّة الماضية. كيف يجسر فنّان نحبّه ونحترمه مثل مروان خوري، كيف يجرؤ على سرقة أغانٍ من شاعرة حلبيّة مبتدئة وينسبها الى نفسه؟ هذا عارٌ وأيّ عار! أخي من باريس يسلّم عليك. لقد انفكّ عن البعثة الدراسيّة التي حصل عليها لصالح كليّة الأدب الفرنسي في حلب. يقول إنه سيترجم مقتطفات من أعمالك الى الفرنسية وسيُجري عليها دراسة حديثة ولكنّه قوّال غير فعّال ولا أثق بمشاريعه، تغيّرت أحوالي يا خالي، تزوّجتُ وسافرتُ الى الخليج، كان زوجي يربح ربحاً وفيراً وفجأةً غضبوا عليه فجرّدوه من كل ما يملك وطردونا الى سوريّا. أظنّ المشكلة سياسية، نحن مخلصون لسوريا بلدنا ويريدونا أن نخونها. في حلب نكر إخوة زوجي كل الأموال التي أرسلها إليهم والآن نحن مفلسون حتى العظم. ذهبنا الى المفتي ووعدنا بالمساعدة ولكن تعرف وعود المشايخ. قال يا موعود بالمشايخ رح تقضي عمرك دايخ. صادفتُ عندك مرّة مُحسنين يسألونك أن تدلّهم على أناس يستحقّون الزكاة. طفلي وزوجي وأنا نستحق الزكاة. لا أعرف كيف صار الأنف يطلع من بين العينين. كيف صار الأهل ينكرون أولادهم والإخوة ينكرون إخوتهم. هذا آخر الزمان والدم يصير فيه ماء. لو أقدر أن أتدبر فقط حليباً لإبني المفطوم حديثاً. حال قريبي مثل حالي وربّما أسوأ.
سيّد غين: بإجاز أنا بحاجة الى عمليّة جراحية. أعمل عاملاً مياوماً ودخلي لا يؤمّن لي معيشة أسرتي فما بالك بتكاليف العمليّة؟ أهلي ميسورون ولكن لأني تزوّجت من لا يريدونها، قاطعوني وتجنّبوني كالوباء. أكتب الأغاني. قلتُ ربّما أبيع بعضها وأُجري العملية بثمنها. فهل هناك مجال لهذا؟
ست واو: صرنا اثنين.
سيّد سين: بل أنتم مئات. مئات يبحثون عن ريع لكلماتهم. الفن كان وما يزال وسيبقى مافيا. شركات كبرى تحتكر الأصوات والشعراء والملحنين وتتحكم في الفن على هواها. المستقلّون مثلي يعطون بالمجّان. إن قدرتم أن ترتبطوا بإحدى عصابات المافيا هذه فستصلون. كثيرون نجحوا في بيع أنفسهم وأكثر منهم فشلوا وأخفقوا. عرضوا أنفسهم للبيع ولا أحد إشتراهم. أغلب الذين طرقوا باب المافيات ودخلوا كانوا من الجنس اللطيف. هناك أمل للجنس اللطيف أما الجنس الخشن فليس أمامه سوى أن يتخنّث. الفن غير التجاري طريقه مسدود وبابه مرصود للعذاب وللشقاء وللفقر وللبؤس.
سيّد غين: ما رأيك بإحتراف الرقص؟ عندي بنت في الثامنة عشر من عمرها، موهوبة بالرقص، تقول بهلوانة، رأتها زوجة أحد أصحاب الكبريهات ترقص في أحد الأعراس، فعرضت علينا أن نوافق على إحترافها الرقص وستغلقنا بالأموال. أمّها تخاف عليها وأخوها يقترح أن نزوّجها ونتركها تحترف ولكن هات زوجاً يرضى أن تحترف زوجته الرقص.
آنسة ميم: أخي يرضى. أخي حلاّق نسائي يبحث عن زوجة فنّانة. أخي متحرّر ولا يهتم كثيراً بالأعراف والتقاليد والعادات. أخي لا يهتم بكلام الناس الذي لا يقدّم ولا يقدّر.
رنين موبايل تُغمغم آنسة ميم بكلمات ويتهلل وجهها بالفرح وتقول: ولدتْ أختي بنجاح. زال الخطر. الأول مولود بخير. هلّموا أعرفكم على أخي ورُبّ صدفة خيرٌ من ألف ميعاد.
سيد غين: حين يأتي النصيب من السما، تبلى الخطّابات بالعمى. هيّا بنا. ربّما نقوم بعملية مداكشة فنأخذك لإبني ونعطي إبنتنا لأخيكِ. التيسير له علامات وواضح أنّها مُيسّرة. وجه ابن أختك وجه سعد. أنقذ أمّه من الموت وقلع النحس عن وجه خالته وجلب النصيب لخاله. أكثر من هذا لا يمكن أن نحلم بوقوعه. لا تنسوا أن تدعونا الى أفراحكم.
آنسة هاء: علامات الخير واضحة. ما قولك في أن أتوظف ماشطة عند إبنتك بعد أن تحترف الرقص وهكذا تمشي أموري أيضاً، خصوصاً وأنا خبيرة في أمور التجميل.
آنسة ميم: لا يمكن أن يكون أحسن من هذا. بالمناسبة صارت وصارت أكيد ستجدين حلاً للزؤان في بشرة وجهي.
آنسة هاء: زؤان الوجه أمره بسيط، زؤان القلب معقّد، فلنذهب إذن على بركة الحبّ والزواج.
الفصل التاسع
المشهد السابع

يذهبون وتدخل فتاتان، واحدة محجّبة الوجه وأخرى مقمطّة الشعر.
آنسة راء: كنّا على وشك أن ندق الجرس فانفتح الباب. خرجوا ودخلنا. أنا راء تذكرتني؟ أعمل مع المعاقين في الممرّة ومعي رفيقة اسمها ياء، تحبّ العمل التطوّعي وليس أحق منك لتطوع في مساعدتك.
ست باء: أخذنا من وقتك كفاية وسنرجع في القريب العاجل.
سيّد سين: من فضلك يا ستّ واو. سلّمي للآنسة ياء كتاباتك وستقرأها لي، صار وقد جبرت بخاطري وتطوّعتْ لمساعدتي.
ست واو: تفضلي. كنتُ أتمنى أن أقرأهم عليك أنا ولكن عسى في المرّة القادمة. الأيام طويلة وسنلتقي.
الفصل التاسع
المشهد الثامن
ست باء وست واو تودّعان وتخرجان.

أستاذي سمير طحان
ريم صدقني زيادة
في عبقريته نهج وفي ثقافته بطولة وفي مخيّلته تواريخ وفي قلمه جبروت وفي كتاباته علوم تجعل من اسمه رمزاً من رموز عباقرة هذا الزمان.
أجالسه فأنسى عينيّ واستهوي النظر إلى عالم طافح بسحر سمير طحان، عالم صادح بمتعة حديثه الذي يطرب الأوصال، عالم يأخذك في قطار حياته المستحيلة فتترك حقائبك لعابري السبيل، عالم يغوص بك إلى أعمق أغوار بحور المحبة والمعرفة.
قصائده تركّع القلم فشعره ينقلك إلى أصدق لحظات الحلم.
في شروده تعبير وفي كلامه تفسير لكل ما لم تكن تفهمه.
أتسمّر أمام صدق فطرته ورهافة مشاعره وقوة تفكيره وسعة خبرته وطموحه اللامتناهي وأتوق دوماً لسماعه وسيبقى لي دوماً القدوة.
لقد حفر كيانه قلعة من أصلب القلاع وأنقذ الحبر والورق من فجوة الضياع.
حلب
ربيع 2011
ر.ص.ز